قال القمّيّ:
روي عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: سمعت أبي (عليه السلام) يقول: لما كان قبل وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بثلاثة أيام هبط عليه جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا أحمد إن اللّه أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً لك وخاصة يسألك عما هو أعلم به منك، يقول كيف تجدك يا محمد قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): أجدني يا جبرائيل مكروباً.
فلما كان اليوم الثالث هبط جبرئيل وملك الموت ومعهما ملك يقال له إسماعيل في الهواء على سبعين ألف ملك فسبقهم جبرائيل فقال: يا أحمد إن اللّه عز وجل أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة يسألك عما هو أعلم به منك فقال: كيف تجدك يا محمد قال: أجدني يا جبرائيل مغموماً وأجدني يا جبرائيل مكروباً.
فاستأذن ملك الموت، فقال جبرائيل: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، لم يستأذن على أحد قبلك ولا يستأذن على أحد بعدك، قال (صلى الله عليه وآله) : ائذن له فأذن له جبرائيل، فأقبل حتى وقف بين يديه فقال: يا أحمد إن اللّه تعالى أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك فيما تأمرني، إن أمرتني بقبض نفسك قبضتها وإن كرهت تركتها، فقال النبي (صلى اللّه عليه وآله): أتفعل ذلك يا ملك الموت؟.
فقال: نعم بذلك أمرت أن أطيعك فيما تأمرني، فقال له جبرائيل: يا أحمد إن اللّه تبارك وتعالى قد اشتاق إلى لقائك، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): يا ملك الموت امضِ لما أمرت به.
ورُوي في المناقب عن ابن عباس أنه أُغمي على النبي (صلى الله عليه وآله)في مرضه، فدُقّ بابه، فقالت فاطمة (عليها السلام): من ذا؟.
قال: أنا رجل غريب أتيت أسأل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أتأذنون لي في الدخول عليه فأجابت امض رحمك اللّه، فرسول اللّه عنك مشغول، فمضى ثم رجع، فدق الباب وقال: غريب يستأذن على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أتأذنون للغرباء، فأفاق رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من غشيته وقال: يا فاطمة أتدرين من هذا؟.
قالت: لا يا رسول اللّه قال: هذا مفرق الجماعات ومنغص اللذات، هذا ملك الموت ما استأذن واللّه على أحد قبلي ولا يستأذن على أحد بعدي؛ استأذن عليّ لكرامتي على اللّه ائذني له فقالت: ادخل رحمك اللّه فدخل كريح هفافة.
وقال: السلام على أهل بيت رسول اللّه، فأوصى النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) بالصبر على الدنيا وبحفظ فاطمة (عليها السلام) وبجمع القرآن وبقضاء دينه وبغسله وأن يعمل حول قبره حائطاً ويحفظ الحسن والحسين (عليهما السلام).
وروي عن أبي رافع مولى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: لما كان اليوم الذي توفّي فيه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)غشي عليه فأخذت بقدميه أقبلهما وأبكي فأفاق وأنا أقول: من لي ولولدي بعدك يا رسول الّله، فرفع رأسه وقال: اللّه بعدي ووصيي صالح المؤمنين.
وروي في حديث عن جابر الأنصاري - رحمه اللّه - أنه قال: كانت فاطمة عند النبي (صلى الله عليه وآله) وهي تقول: وا كرباه لكربك يا أبتاه، فقال لها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة إنّ النبي لا يشق عليه الجيب ولا يخمش عليه الوجه ولا يدعى عليه بالويل ولكن قولي كما قال أبوك على إبراهيم : تدمع العينان وقد يوجع القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم محزنون.
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال في قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة (عليها السلام): إذا أنا متُّ فلا تخمشي عليّ وجهاً ولا ترخي عليّ شَعْراً ولا تنادي بالويل ولا تقيمي عليَّ نائحة ثم قال: هذا المعروف الذي قال اللّه عز وجل.
قال المفيد ثم ثقل (صلى الله عليه وآله) وحضره الموت وأمير المؤمنين (عليه السلام) حاضرعنده فلما قرب خروج نفسه قال له : ضع يا عليّ رأسي في حجرك فقد جاء أمر اللّه فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ثم وجّهني إلى القبلة وتولَّ أمري وصلِّ عليَّ أول الناس ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي واستعن باللّه تعالى، فأخذ عليّ رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه فأكبت فاطمة (عليها السلام) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:
وأَبيض يستسقى الغمامَ بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)عينيه وقال بصوت ضئيل : يا بنية هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] فبكت طويلاً فأومى إليها بالدنو منه فدنت منه فأسرَّ إليها شيئاً تهلل وجهها له فجاءت الرواية: أنه قيل لفاطمة (عليها السلام) ما الذي أسرإليك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فسرى عنك به ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته قالت: إنه أخبرني أنني أول أهل بيته لحوقاً به وأنه لن تطول المدة بي بعده حتى أدركه، فسرى ذلك عني.
وفي رواية الصدوق عن ابن عباس: فجاء الحسن والحسين (عليهما السلام) يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فأراد علي (عليه السلام) أن ينحيهما عنه فأفاق رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ثم قال: يا عليّ دعني أشمهما ويشمّاني وأتزود منهما ويتزودان مني أما إنهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلماً، فلعنة اللّه على من يظلمهما يقول ذلك ثلاثاً ثم مد يده إلى علي فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ووضع فاه على فيه وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة صلوات اللّه عليه وآله فانسل عليّ من تحت ثيابه وقال أعظم اللّه أجوركم في نبيكم فقد قبضه اللّه إليه فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء.
وقال الطبرسي وغيره ما ملخصه أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال لملك الموت: امض لما أمرت له فقال جبرائيل: يا محمد هذا آخر نزولي إلى الدنيا إنما كنت أنت حاجتي منها فقال له: يا حبيبي جبرائيل ادن مني فدنا منه فكان جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله وملك الموت قابض لروحه المقدسة فقضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ثم وجَّهه وغمضه ومد عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره.
قال الراوي: وصاحت فاطمة (عليها السلام) وصاح المسلمون وهم يضعون التراب على رؤوسهم.
قال الشيخ في التهذيب: قبض مسموماً يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة، وفي المناقب وكان بين قدومه المدينة ووفاته عشر سنين وقبض قبل أن تغيب الشمس وهو ابن ثلاث وستين سنة (صلى الله عليه وآله).
وعن الثعلبي أنه قبض حين زاغت الشمس فلما قبض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)جاء الخضر فوقف على باب البيت وفيه عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قد سجِّي بثوب فقال: السلام عليكم يا أهل البيت، كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، إن في اللّه خلفاً من كل هالك وعزاء من كل مصيبة ودركاً من كل فائت فتوكلوا عليه وثقوا به وأستغفر اللّه لي ولكم، وأهل البيت يسمعون كلامه ولا يرونه فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا أخي الخضر جاء يعزيكم بنبيكم.
قال الشيخ القمي: إن كنت أردت أن تعلم مقدار تأثير مصيبة النبي (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين وعلى أهل بيته فاسمع ما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك، قال: فنزل بي من وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله وحال بينه وبين الفهم والإفهام والقول والاستماع وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزٍّ يأمر بالصبر وبين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته، بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته، وجمع كتاب اللّه وعهده إلى خلقه لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ولا هائج زفرة ولا لادغ حرقة ولا جزيل مصيبة حتى أدّيت في ذلك الحق الواجب للّه عز وجل ولرسوله عليَّ وبلغت منه الذي أمرني به واحتملته صابراً محتسباً.
وروى الكليني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لما قبض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بات آل محمد (عليهم السلام) بأطول ليلة حتى ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تُقِلُّهم لأن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وتر الأقربين والأبعدين في اللّه، فبينا هم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته، إن في اللّه عزاء من كل مصيبة ونجاة من كل هلكة ودركاً لما فات، كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، إن اللّه اختاركم وفضلكم وطهّركم وجعلكم أهل بيت نبيه واستودعكم علمه وأورثكم كتابه.
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : إن اللّه لما قبض نبيه دخل على فاطمة (عليها السلام ) من الحزن ما لا يعلمه إلا اللّه عز وجل، فأرسل إليها ملكاً يسلّي غمَّها ويحدثها فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لها: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته ذلك وجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفاً قال (عليه السلام): أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون.
وفي رواية أخرى أنه كان جبرائيل (عليه السلام) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها.
وروي أنه اجتمعت نسوة بني هاشم وجعلن يذكرن النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت فاطمة (عليها السلام): اتركن التعداد وعليكنَّ بالدعاء وقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا عليّ من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب، وأنشأ أمير المؤمنين (عليه السلام):
الموت لا والدا يبقي ولا ولدا *** هذا السبيل إلى أن لا ترى أحدا
هذا النبي ولم يخلد لأمته *** لو خلد اللّه خلقا قبله خلدا
للموت فينا سهام غير خاطئة *** من فاته اليوم سهم لم يفته غدا.
من كتاب : الأنوار البهيّة في توريخ الحجج الإلهيّة : ص30-36. للمؤلّف : الشّيخ عبّاس القمّيّ / بتصرّف.