بقلم: السيد حبيب مقدّم التونسي.
من ساحات الإباء والشرف، وكذلك الألم والعزّة وليس النَّحيبُ أو العويل... ساحات تعطّرت أرضها بدماء جراح العاشقين، وعلى موسيقى رقصات الشوق مع الحنين... التي لم تفارق مَسْمَعي مذ تركتك ورحلت نحو قوافل المجاهدين.
من هناك...، أَقِف لأُلَمْلِم لكِ وُرَيْقاتي المبتلة بدموع الشوق لِمُحَيَّاكِ...، الذي سَقَتْهُ أنهرُ عفَّةَ حرائر أمير المؤمنين (ع)، ولأَخُطَّ لكِ على صفحاتها المُصْفَرَّة ما يجود ويسمح به رضاء المعاهدين...، ولأَرْسُمَ لكِ وحدك بين سطورها فلسفة العشق التي جَعَلَتْنِي عن عَذَبَاتِ فُراقكِ منَ الصابرين...، ثمّ أُرسلها آمِلاً مع خَطَرَات مَنْ هُم في سُوحِ الجهاد للشهادة مُنتَظِرِين...، ثمّ ثقي أنّي فارقت دُنْيَاكِ وأنا مُمْتَطِيًا صَهْوَة رحماتِ ربٍ...، لولا جُود كَرمِه ولُطْف حَنَانهِ لكُنتُ لِوِسَام الشهادة من المَحْرُومين.
لتَصِلَ لكِ يا حوريَةً سَمَتْ في نفسي حتى سَكَنَتْ دُرُوبَ الخيال... ثمّ تَوَطَّنَت في غياهب الوجدان...و بعد كلّ هذا تَرَبَّعَت على عرش هذا الكَيَان... فَأَضْحَيْتِي بذلك أُنْسًا لِذِكْرَياتي الهاربة مِنِّي... ونبعًا لأحاسيسي التائهة عني...،ومُستقرًّا لفرحتي المسلوبة منِّي....
إليكِ أنت وحدَكِ أجمع كلَّ عِبارَاتي... وعند أَعْتابِ روحَكِ الطاهرة بالولاية تقف جميع أَنَاتِي...إليكِ وحدَكِ يامهجة الفُؤَادِ، أَتَحَسَّسُ في ظَلْمَاءِ البَرَارِي والجبال دَوَاتي وقَلَمي...، إليكِ وحدَكِ يا قرَّة عيني، أُصَبِّرُ على ترانيم أَزِيزِ الرَصَاصَات قلبي ونفسي... إليكِ وحدَكِ يا مُكَمِّلَة نفسي، أسْتَرِقُ من الزمان آنَاتِي المتبقية لأكتب لكِ جميع رِسَالاَتِي...وأقول لكِ فيها: يشهد الله أنَّكِ بَعْد سَادَتِي مِن آل محمد (ص)، أنت العِشْق الوَحِيد، وأنت الحُبّ الفَرِيد... بل وعهدًا ستزالين الزَّهْرَة التي تُعَطِّر سَمَاء دَرْبي... والبَسْمَة التي ستُشرقُ بمُحيَّاها أركان كهفي... والحُورِيَّة التي سَتُتَوَّجُ في عَوَالِمِ الخُلْدِ أَمِيرة عُرْسِي...
إليكِ ومِنْ أجلكِ... سَأسْرِق كل العِبَارات والمَعَاني، من دَفَاتِرِ وكُتَيِّبَات العَذَاب والأَحْزَان... لأقول لك أَنِّي كُنت وسأكون هنا صَابِرًا ثَابِتًا في مُوَاجهةِ جَور وعدوان مَنْ باعوا الأرض وخانوا الأوطان.... لك يا سليلة مدرسة مَن مُنِعُوا مِنْ ماءِ الفراتِ... سَأَكْتُب وأَخُط اليوم كلَّ الكلماتِ... وثقي أنّي من نَبْعِ حَنَانَكِ المُعَتَّقِ بِصَبْر الحَوْرَاءِ زيْنَبَ (ع)، أَسْتَلْهِم جميع العِبَارَات.... ومن موطن إِيمَانكِ المُعَطَّر بعِشْق البَتُولِ فاطمة (ع)، أَنْسُجُ كل هذه المُفْرَدَات... لأقول لكِ سامحيني يا حبيبتي.
سامحيني يَا رَفِيقَة الدَّرْب وَلَهْفَت القَلْب على كل تلك الكلمات الجَارِحة، والعبارات القادحة... سامحيني يا معنى الحَيَاة وَبَلْسَم الآهات على جميع تلك الأذيات والدمعات...، سامحيني بحق الله يا زوجة روحي ودواء جروحي...، سامحيني يامُكَمِّلَة نَفْسي وأميرة عرسي...، سامحيني على الفراق الذي فرضه الدهر بقَدره العادل في أحكامه واللّطيف في حنانه....
سامحيني... فلقد عَزَفَتْ كربلاء الحسين (ع) على مسامعي أشَدَّ تَرَانِيم الوَجَع والأحزان... فَصِرْت بعد ذلك هَائمًا بين آخرةِ خُلْدٍ و دُنْيَا مَبْنِيّةً على الذِلَّة والحِرْمَان...سامحيني فلقد مرَّت مَوَاكِب السَبَايَا على ناظري بِأَعْتَى صور الأَلم والخذلان... فأضحيت حين ذلك تائِهًا ومُمَزَّقًا بين فِرَاقِكُم المُوجِع وتَلْبِية نِدَاءَات بنات خَيرِ الأَنَام...
سامحيني وَلاَ تَلُومِينِي... فَمَاذَا بِيَدِ مَنْ امْتَزَج أَصْل وجوده بولاية أُنَاسٍ قد كُتِبَ عليهم وَلِمَنْ وَلاَهُم، أن يُسْقَوْا مِن عَذَابَات الأَسَى حتى يحين موعد الظهور واللّقاء .
لا لا تَلُومِينِي بحقّ ذرّات عشق الزهراء التي تناثرت بين شغاف قلبكِ... فلست أنا الذي ربّتني وسَهِرَت أمي، ولا أنا الذي تَأَمَّلَنِي وَشَقَى أبي، لأترك كربلاء زماننا، وأنا لِحُسَيْنِي من المُوَلِّين، ولِزَيْنَبَكِ من المتخاذلين... فليت أمي ثَكَلَتْنِي في مَهْدِي، وليت أوصالي تَمزّقت وأَطْرَافي تَقَطَّعت ثمّ نُثرت في السماء، على أن لا أكون حيث كان فِلْذَة كَبِدِ زَهْرائِنا، وحيث كَانت قُرَّة عين زَيْنَبَنَا، وحيث تَمْتَزج عندَ خَالقكِ ومَالِكَ رِقَّكِ دِمَائِي بدماء سيد الشهداء.
لا تلوميني...، واصبري فَأنَا وَأَنتِ یا حَبِیبَتي...، في وَاقِعِ وُجُودِنا مُلْكٌ لِذَاك الحَقّ...، مَنْبَع الرَّحمة والحنان...، وهو أَوْلی بِكِ مِنِّی...فاصْبري لِنَفُوز بالقُرْب والجِنَان....
يازوجتي إنّ زوجك أحبك بصدقٍ، والمولى هو العالم بالوجدان...، يا زوجتي زوجكِ عشقكِ لأنك نعمة تكرّم عليّ بها الله في دنيا الخذلان...، ولکن يافرحة عمري، أنا وأنت لسنا أفضل من سادات الجنان، حسيننا وزينبنا وباقي الخلاّن...، وكذا یا عزيزتي لن تُغني عنِّي ولا أُغْنِي عنك غدا فی ساحات الحقِّ، أمام خَالِقِ ومُصَوِّر الأکوان...
فهاأنا يا زوجتي... سأنهض لأُسْقِي نَفْسِي مرَّ الصّبر...، وأمض حیث أمضي ولن توقفني ذكرياتك... وثقي أنِّي متوجِّع عليل...، ها أنا سأجول لآخر مرّة بخاطري في مقابر آلامي الفسیحة...، لأَقِفَ علی مَقْبَرة أَلَمِ فراقَكِ المُوحِشَة... وأدفن كلّ أوجاعي وأنا أَتْلُ تراتيل المُنِيبِين...
ها أنا يافرحة حياتي، أقف لتناول جواد سلاحي، الذي هو بوابة رحلتي، وبعدها سأكون لكِ من المنتظرين...، ها أنا ياعزيزتي أخطو خارج خيمة أنسي التي بنَيتُها بذكرياتك الجميلة،نحو القوم...، ها أنا يا فلذة الكبدِ أبصر وراء القوم أنوار المعشوقِ، وقد شرّعت أبوابها وأئمَتي عندها ناظرين....
فوداعا وداعا ولا تحزني...، فهذه السطور ستصلك عبر خواطرِ عُشَّاق الشهادة، الذين مازالوا لها داعين وطالبين....
كُتبت هذه الكلمات مِنْ مَنْ ليس بشاعرٍ ولا أديب، وغاية ما يمكن وصفه كونه للشهادة عاشق تريب، وهي كُتبت حاكية لسان حال شهداءنا الذين ساروا في درب أبي عبد الله الحسين (ع).