حطم حزب الله كبرياء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على تخوم فلسطين

حطم حزب الله كبرياء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على تخوم فلسطين

حطم حزب الله كبرياء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على تخوم فلسطين. أربعة أسماء ستختصر هذه الحرب: علي صالح، بشير علوية، غال هيرتش، وإيرز تسوكرمان. من عادة الحروب أن تُختصر بأسماء القادة والفاتحين، لكن المفارقة أن الاسمين الأولين ليسا إلا لمقاتلين ــــ شهيدين من حزب الله. ناور صالح في الحجير، وأوقف الزحف الإسرائيلي في اتجاه الليطاني. وقاتل علوية وحيداً، وأبطأ الثاني تقدمهم عند الساحل. أما هيرتش وتسوكرمان، المسكونان بحنق الجنون والعظمة، فكان كل منهما قائداً لفرقة. حاول الأول دخول بنت جبيل، وكان أول من أعلن «سقوطها»، فيما ساورت الآخر آمال انزلاق الحرب إلى ما بعد بعد مرجعيون، وربما إلى سوريا. دفع الاثنان بجنودهما إلى الميدان ليُفاجِئا الخصم بالمناورة السريعة ومرونة الحركة. لكن الحال أن زمناً قد مضى، والجيش الذي فاجأ العالم عام 1982 بسرعة تقدمه، بات أقل ذكاءً وأثقل حركة.

بشار اللقيس- لم يكن الانسحاب الإسرائيلي، في 25 أيار عام 2000، ليتم لو لم يتمكن حزب الله من إضعاف تأييد عموم الإسرائيليين للحرب. طوال 18 عاماً، كان من شبه المستحيل على الرقابة العسكرية التعتيم على فظاعات الغرق في الوحول اللبنانية.

بحلول حزيران 2000، وفيما كان فريق من رسامي الخرائط التابعين لقوات اليونيفيل يعمل على ترسيم الحدود الجديدة بين لبنان وفلسطين المحتلة، كان كل من حزب الله وإسرائيل يستعدان للجولة المقبلة. في قيادة المقاومة، كانت ثمة قناعة بأنه لم يعد في إمكان إسرائيل تحمّل الحروب، وقد تنهار بنية مجتمعها تحت الضغط في مواجهة أي صدام مقبل. كان هذا دافعاً لمزيد من الاقتناع بأنّ إسرائيل، في أي حرب مقبلة، ستعتمد بشكل كبير على سلاح الجو والمدفعية بدلاً من القوى البريّة، لأنها لن تستطيع تحمل أي إصابات بشريّة. يشير أمير غاليك، الباحث في «مركز جافا للدراسات الاستراتيجية»، إلى أن أدلة مختلفة كانت تشير إلى تبني الحزب لهذا المنطق عندما بدأ بوضع مخططاته العملياتية والتكتيكية بين عامي 2002 و2003. كما تمرّس، بين عامي 2000 و2006 في مجال استخبارات الإشارات المضادة، وهي الكفاءة التي سيكون لها المردود الكبير في حرب تموز.

لم تكن كل هذه المعطيات متوافرة لدى القيادة الإسرائيلية منتصف 2006. على الحدود كان ثمة شيء من الروتين اليومي، لولا معطيات الاستخبارات العسكرية، أوائل حزيران، بأن عملية أسر قد تقع. في 27 حزيران 2006، رفع الجيش الإسرائيلي درجة التأهب على امتداد الميل 105 قرب مستوطنة زرعيت. وُزِّعت وحدة الاستطلاع «إيغوز»، وهي من وحدات النخبة، في كمائن على الحدود فجر 27 حزيران للإيقاع بمقاومي حزب الله الذين يفترض أن يتسللوا عبر الحدود. مضت الأيام ولم يحدث أي اختراق. في الثاني من تموز، انسحبت القوّة، وخُفضت درجة التأهب إلى عالٍ. مضت أيام ثمانية قبل أن تخفّض قيادة الأركان في 10 تموز درجة التأهب إلى ما فوق العادي. وعاود الجنود القيام بدورياتهم الروتينية، في انتظار انتهاء مدة خدمة الاحتياط صبيحة 12 تموز.

كانت كتيبة الاحتياط هذه تشكل جزءاً من اللواء 300، الفرقة 91 التي يقودها العميد غال هيرتش. ليلة 11 تموز، تلقّت أجهزة المراقبة لجيش الاحتلال تقارير عن حالات تماس على طول الشريط الحدودي الإلكتروني قرب الميل 105. بعيد هذه التقارير كانت إحدى دوريات الاحتياط قد أفادت بوجود 20 مقاتلاً من حزب الله على طول الحدود. الغريب أن أيّاً من هذه المعلومات لم تصل إلى جنود الاحتياط الذين كانوا يستعدون للقيام بدوريتهم النهارية في قطاع الميل 105.

يورد تقرير مركز الأسلحة المشتركة للجيش الأميركي تفاصيل ذاك النهار على النحو الآتي: الساعة 8:45 تجمّع جنود الاحتياط للقيام بدوريتهم الأخيرة في قطاع الميل 105. خلافاً للإجراءات المعمول بها، لم تُعطَ مجموعات الاستطلاع أي تعليمات أساسية، فلم تقم بأي تفتيش قبيل انطلاق الدورية، ولم تنتظر أوامر الانطلاق من الضابط المسؤول. على عجلٍ حمل الجنود أمتعتهم المدنية، وعند صعود المركبتين، كانوا يتسامرون ويمنّون النفس بالعودة إلى بيوتهم بعد انتهاء الدورية.

الساعة 8:55، وصلت المركبتان إلى الميل 105. رصد برج المراقبة مقاتلاً من حزب الله مسلحاً بصاروخ مضاد للدروع بين الأعشاب الطويلة بالقرب من السياج. لم يستطع إيصال المعلومة لأفراد الدورية. للمرة الثانية، خالف جنود الاحتياط إجراءات المهمّات المعمول بها. تابعت المركبتان سيرهما في اتجاه الميل 105. عند تمام التاسعة انفجرت عبوة ناسفة، فيما أصابت صواريخ مضادة للدبابات المركبتين فقتلت ثلاثة جنود وجرحت أربعة آخرين. كانت ألسنة النار تلتهم المركبتين، عندما سارع مقاتلو حزب الله لانتشال اثنين من الجنود من أتون الحطام الملتهب، وعبروا بهما الحدود بسرعة. وللتغطية على الهجوم وإرباك قيادة المنطقة الحدودية، فتح رجال المقاومة النار على النقاط الإسرائيلية على طول قطاع الميل 105. سادت الفوضى للحظات، ولم يُدرك آمر الكتيبة حجم الهجوم حتى الساعة 9:27. فور انجلاء الموقف، عممت الأركان على جميع القوات التابعة للقيادة الشمالية الكلمة المشفّرة «هنيبال»، وتعني أن جندياً إسرائيلياً قد خطف. كان من المفترض أن يؤدي تعميم الكلمة إلى انطلاق سلسلة من الإجراءات المبرمجة سلفاً. كان على آمر الكتيبة الطلب من جنوده التحرك بسرعة إلى داخل الحدود اللبنانية لقطع الطرق التي يستخدمها مقاتلو حزب الله للانسحاب. إلا أنه لم يقم بذلك خشية الألغام والعبوات التي كان متيقناً من أن حزب الله قد أحكم تشبيكها. بحلول الساعة 9:33 كانت بعض أجزاء خطة هنيبال قد بات قيد التنفيذ. انطلقت نيران المدفعية الآلية على مواقع حزب الله، لكن ذلك حصل بصورة جزئية وبطيئة. في الساعة 9:39، وصلت المروحيات الهجومية إلى الميل 105. لم يكن في الميدان غير حطام المركبتين، وما من أثر لمقاتلي حزب الله.

لم يبلّغ آمر الكتيبة مقرّ قيادة اللواء 300 تفاصيل حادثة الخطف حتى الساعة 10:03. حال الإرباك دون التحرك قبل مضي 57 دقيقة. في تمام الساعة 11:00، انطلقت المركبات المدرعة إلى داخل الحدود اللبنانية. في طريقها نحو هضبة تُشرف على طريق يُحتمل أن يستخدمه مقاتلو حزب الله للانسحاب، انفجرت عبوة ناسفة هائلة بدبابة ميركافا 4، فتطايرت شظاياها الضخمة إلى مسافة 150 قدماً، وقتل طاقمها المؤلف من أربعة جنود على الفور.

في مقر قيادة اللواء 300 سادت حال من الإرباك. لم تكن الثقة بغال هيرش عالية. عندما هرعت فرق الإنقاذ لاستعادة الجثث، قُتل جنديان آخران في اشتباك مع مقاتلي المقاومة. في الساعة 12:00 أصدرت القيادة أمر عمليات البُعد الرابع the fourth dimension، لتبدأ الغارات الجوية بتدمير 69 جسراً في الجنوب لعرقلة انسحاب مقاتلي حزب الله الذين نفذوا عملية الخطف. لكن ردّ فعل الجيش جاء مشوشاً وعشوائياً. كشفت العملية عن تقصير مذهل في صفوف قيادته وجنوده، من إخفاق في نشر المعلومات الاستخبارية، إلى ضعف وسم تصرفات جنود الاحتياط.

ظهيرة 12 تموز، إلتأمت الحكومة المصغرة، قرب تل أبيب، لتدارس احتمالات الرد. كان الثلاثي: حالوتس ــ بيريتس ــ أولمرت، قد أخذ على عاتقه دفة الأمور. لم يكن رئيس الوزراء ووزير دفاعه ذوي خلفية عسكرية مهمة. خدم أولمرت في الجيش الإسرائيلي كمراسل صحافي، فيما أمضى بيريتس خدمته العسكرية كضابط صيانة. لم يكن أي منهما يتمتع بالخبرة اللازمة لإدارة شؤون الحرب، بحسب تقرير فينوغراد. لذا، ولصوغ ردّ الفعل المناسب على عملية الخطف، اعتمدا على دان حالوتس، الجنرال الذي أثبتت الحرب في ما بعد أنه لم يكن كفوءاً، هو الآخر.

مساء 12 تموز، كان مكتب الأركان يستعيد خطط الطوارئ المُعدّة بتأنٍّ لضرب حزب الله. بدا أن لدى الجيش خطتين مُحكمتين، وضعتا بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. سُميت الأولى كاسحة الجليد (شوفيرت هكيراخ)، وتتضمن هجوماً جويّاً لفترة تراوح بين 48 و72 ساعة. في الآن عينه، سُلم وزير الدفاع خطة رديفة سُميت «مياه الأعالي» (مي مَروم)، لإبعاد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني. يسترجع رون تيرا، المخطط في الجيش الإسرائيلي، ما جرى قائلاً: «كانت الفكرة أن يطلق الجيش عملية كاسحة الجليد، وفي الوقت نفسه استدعاء ونشر جنود الاحتياط من أجل عملية مياه الأعالي. بعد مضي 72 ساعة من الضربات الجوية، كان مقدراً إنهاء الحرب أو بدء تنفيذ خطة مياه الأعالي. لكن حالوتس لم يكن قد حسم خياره تجاه الخطة الثانية بشكل نهائي، مفضلاً الاقتصار على الهجوم الجوي».

على المستوى السياسي أبلغت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني نظيرتها الأميركية كوندوليزا رايس أن الجيش الإسرائيلي لن يحتاج لأكثر من 35 يوماً.

أقنع حالوتس بيريتس وأولمرت بالحملة الجوية، وهو ما مثّل صلب المشكلة التي عانتها إسرائيل. لم تهدف الضربات الجوية للقضاء على حزب الله بصورة كاملة، بقدر ما سعت لإحداث «وعي بالنصر» لدى الإسرائيليين، «وإدراك معرفي بالهزيمة» في حزب الله يجبره على مغادرة الجنوب ونزع سلاحه. اقترح حالوتس ضربة جوية هائلة ضد أهداف لبنانية رمزية، وضد موارد حزب الله وقيادتيه العسكرية والسياسية. يقول يائير نافيه: «كانت فكرته أن تؤدي الضربات لانهيار حزب الله كمؤسسة عسكرية، بما يؤدي إلى أن يجد نفسه مجبراً على التحول إلى منظمة سياسية والتخلي عن خياره العسكري».

ساورت الشكوك حول إمكان نجاح العملية بعض الضباط والسياسيين، لكن حالوتس تجاوز بعض الشكوك ولم يرفعها لأي من القيادة السياسية أو المجلس الوزاري المصغر.

ليلة 13 تموز بدأت الطائرات والمدفعية شن هجمات محدودة على البنى التحتية اللبنانية، واستهدفت مراكز السيطرة والتحكم التابعة لحزب الله، وصواريخه البعيدة المدى. بعيد منتصف الليل، هاجم سرب من الطائرات، كان يحلق بالقرب من بيروت، 54 منصة إطلاق صاروخ زلزال فدمّرها. عندما تلقى حالوتس المعلومات الأولية حول العمليّة، اتصل على الفور بأولمرت وأخبره أن سلاح الجو دمّر جميع الصواريخ البعيدة المدى. قال: لقد ربحنا الحرب!

في لبنان بدا الدمار هائلاً، قبيل ظهر 14 تموز أغار الطيران الإسرائيلي على مطار بيروت، بالتوازي مع إحكام البوارج الإسرائيلية الخناق على كامل المنافذ البحرية. 14 تموز صباحاً بدا كل شيء منتهياً، لكن رسالة متلفزة أذاعتها قناة المنار للأمين العام لحزب الله، كانت كفيلة بتغيير كل شيء. يقول أوغستوس ريتشارد نورتون، وهو مراقب عسكري سابق تابع للأمم المتحدة في الجنوب: «لقد دعا نصر الله جمهور المشاهدين إلى النظر إلى البحر، وفي توقيت متقن دوى انفجار في الأفق هزّ السفينة البحرية الإسرائيلية «حانيت» التي أصيبت بصاروخ C802 الإيراني الصنع وقتل أربعة من جنود طاقمها. المريع في الأمر أن «حانيت» فشلت في تشغيل منظومتها الدفاعية ضد الصواريخ». وفي تعليقه على الحادثة قال أحد ضباط الجيش الإسرائيلي: لم نكن نعلم أن حزب الله كان في حيازته هذا النوع من الصواريخ.

شكلت تلك الحادثة إشارة أولية إلى أن حزب الله قد يكون أكثر استعداداً مما توهّمت إسرائيل. مساء ذاك اليوم، أبلغت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية القيادة السياسية والعسكرية العليا أن سلاح الجو وحده لا يستطيع تنفيذ المهمة، وبات واضحاً لدى الاستخبارات أن الأسيرين لن يعودا، وأن إسرائيل عاجزة عن خفض الهجمات الصاروخية إلى ما دون مئة صاروخ يومياً.

يوما 15 و16 تموز واصل الطيران تدميره للبنى التحتية اللبنانية، في وقت بدأ فيه حزب الله إمطار الداخل الإسرائيلي بوابل من الصواريخ. صبيحة 16 تموز، كان أول الصواريخ البعيدة المدى يسقط في العمق الإسرائيلي وسط حيفا. أدت صليات الصواريخ إلى مقتل ثمانية إسرائيليين. وفي معرض تقويمه لتلك الضربات، رأى مارك بيري، أحد الخبراء الأميركيين المراقبين للحرب، أنها لم تؤثر بأكثر من سبعة في المئة من قدرات حزب الله العسكرية. رويداً رويداً، صار يتضح لبعض مسؤولي جيش الاحتلال أن تحقيق أهداف الحرب المعلنة، يتعيّن القيام بهجوم بري واسع. ومع معاندة حالوتس وكبار قادته، بدأت التقارير المثيرة للقلق ترد على مقر القيادة من الوحدات الخاصة في الجيش. كان أحد هذه التقارير يشير إلى استماتة وحدات حزب الله في القتال للحفاظ على مواقعها في المرتفعات الحدودية المشرفة على فلسطين.

في 17 تموز، ومع إعلان أولمرت أمام الكنيست أهداف الحرب باستعادة الجنديين المختطفين وإبعاد حزب الله عن الجنوب، بدأت وحدات من الجيش الإسرائيلي الاستعداد للعمل البري المحدود. جاء هذا التطور كحل وسط بين قيادة الأركان وكبار ضباط الجيش الذين أصرّوا على ضرورة استدعاء الاحتياط والقيام بعمل بري تحقيقاً لأهداف الحرب.