إنّها فلسفة العشق الحسيني، التي نُحِتَت مفرداتها قبل أربعة عشر قرن، بنوع خاص من الإباء والتضحية، والثبوت والصمود، بحيث استطاعت رغم حملات الطمس المتتالية عبر قرون، أن تحافظ لا على بقائها فقط، بل وعلى تأثيرها في الأجيال المتعاقبة، إنّها فلسفة الإمام الحسين (عليه السلام) العاشورائية، التي خطّها وثبّتها في عقول ملايين البشر، لا من خلال المفاهيم والمفردات النظرية فقط، بل ومن خلال ترجمتها عمليّا في أرض كربلاء سنة 61 للهجرة، ليكون هو وكل اهل بيته وأحبّته، أول وأبرز المترجمين لهذه الفلسفة النظرية والعملية.
ونحن عندما نقول: فلسفة العشق الحسيني، فإنّنا لا نقصد بذلك نثر الكلام، لنسج أفضل معاني البيان، أو لنضفي من خلالها على مقالتنا أدّق مفردات الكلام، بل إنّنا في إطلاق هذه المفردات على ما نراه يحصل في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، نعي بعلمٍ وكذلك ندرك بمعرفةٍ ما تحمله هذه المفردات من معاني ومفاهيم، بحيث أطلقناها على ملحمة أربعين الحسين (عليه السلام)، التي تحصل داخل أرض العراق.
لأنّه وبكل بساطة لا يوجد أي منطق عقلي بشري، يمكنه أنّ يفسر أو يحلّل لنا اجتماع هذا الكم البشري الهائل والرهيب، دون أن يفترض وجود منظومة معنوية دقيقة في ترابطها، وعميقة في تجذرها داخل كل فرد شارك ويشارك في هذه التظاهرة، ويتأكد ذلك، عندما نحيط بالظروف التي يمر به البلد المستظيف لهذه التظاهرة، على مستوى بنيته التحتية الخدماتية، وأيضا على مستوى التحديات الأمنية الصعبة جدّا، نتيجة واقع الإرهاب الذي تفرضه عليه دول عديدة منها القريبة ومنها البعيدة.
وبمعزل حتى عن الظروف والتحدّيات التي يمرّ بها العراق، فإنّ تجميع هذا العدد المليوني في منطقة جغرافية واحدة، ومن مختلف دول العالم، لا يمكن تفسيره بمعزل عن إفتراض وجود ترابط بين العقل والقلب من خلال العقيدة، ليشكل منظومة معنوية، ذات بُعد عاطفي عميق جدّا داخل الفرد، بحيث كانت قادرة على تحريك ملايين البشر من النساء والرجال والشباب والشيوخ، نحو السير لعشرات الكيلومترات مشيا على الأقدام، لا لشيء، إلاّ لإظهار صدق العشق والولاء، والتأكيد على العهد بالسير على وفق خطى ونهج الحقّ، الذي لأجله قدّم الإمام الحسين (عليه السلام)، وأهل بيت النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، كل تلك التضحيات الجسام.
فالكم البشري الهائل الذي تحتويه تظاهرة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، تحفّز ثم توجّه عقل كل عاقل، نحو تحليل هذه الظاهرة، من خلال البحث عن العنصر الذي يحرك هذه الملايين من النّاس، وبمختلف طبقاتهم الإجتماعية، وفئاتهم العمرية، بحيث تنمحي بينهم كل تلك الفروقات الإحتماعية التي يعتبرها كل معتبر.
وفي مقام الإجابة عن ذلك، يمكننا أن ندّعي واثقين، أنّ العنصر الذي يقف خلف صناعة هذه التظاهرة العظيمة، هو العشق الحسيني، الذي تقف خلفه فلسفة مصدرها ومنشؤها العقل والقلب، اللذين ارتبطا في ما بينهما من خلال ما يُعبر عنه بالعقيدة، فينتج عن ذلك فلسفة معاشة تُتَرْجَم في حركة الفرد، أكثر من كونها تُدرك وتتصور بالعقل، وتقرير ذلك باختصار وبساطة هو:
أنّ الإنسان في تركيبته، نجده يتركب من بُعدين؛ المعنوي والمادي، كما ومن خلال الملاحظة أكثر، نجد أنّ بُعده المادي في عمومه تابع في فاعليّته إلى بُعده المعنوي، وأيضًا نلحظ أنّ هذا البُعد المعنوي الذي يقف خلف أكثر سلوكيات الإنسان وحركته ومواقفه، يتركب من قسمين:
وعليه، فيمكننا القول: أنّ ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام) ومن معه، في اليوم العاشر من محرّم الحرام، هو ترجمة في أرض الواقع لجملة كبيرة من القيم والمبادئ التي هي في حقيقة الأمر جزء لا يتجزأ من المحتوى الداخلي لكل إنسان، فهو (عليه السلام) لم يكتفي فقط بتوضيح وإظهار قيمة التضحية أو العزة وحدودهما، ولم يكتفي بتحديد مبدأ الثبات على الحق ورفض الذلّة وحدودهما، بل قد تجاوز ذلك إلى ترجمة هذا القيم والمبادئ على أرض الواقع، بحيث كان هو ومن معه من أحبّة، أول المصاديق لترجمة ما أرادنا أن نتعلّمه منه.
وبالتالي فما قرّره ونحته الإمام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء من مبادئ وقيم، وبلحاظ كونها جزء من تركيبة الإنسان الداخلية، فلابد وأن يكون لها حيّز ومكان في المنظومة الفكرية لكل فرد حين ورودها إلى فكره، وبالتالي فلابد وأن ينفعل معها العقل البشري، بحيث تتولد لديه مقبولية لهذه المبادئ والقيم.
أما ما قام به (عليه السلام) من خطوة، عندما ترجم هذه القيم والمبادئ على أرض الواقع، فقد لامس من خلاله عاطفة وشعور كل فرد وصله خبر واقعة الطف وما جرى فيها، وهذا الفعل هو ما حرّك في داخل كلّ فرد بُعده العاطفي القلبي.
وإذا أضفنا إلى هذين الأمرين، ما يمثله الإمام الحسين (عليه السلام)، من قيمة عقائدية عند هذه الملايين من البشر، بلحاظ موقعه كإمام، وما يتصف به من كمال بشري، يمكننا عند ذلك أن نفهم معنى إجتماع العقل والقلب من خلال العقيدة لتكوين فلسفة معاشة، مُوَلِّدة لعشقٍ يمكنه دفع الإنسان نحو أعلى درجات العمل والتضحية، بحيث تتشكل لدينا تظاهرة كتظاهرة الأربعين.
فالمبادئ والقيم التي رفعها وأبرزها الإمام الحسين (عليه السلام)، في مواجهته لعدوّه، وبلحاظ كونها جزء من محتوى الإنسان الداخلي، فقد تفاعل معها العقل وارتبط بها بعد أن قبلها، أمّا خطوة ترجمة هذه القيم والمبادئ في أرض الواقع، بحيث ترتب على ذلك صورة في غاية القسوة، هو ما لامس عاطفة الفرد وحرّكها لترتبط هي الأخرى بتلك المبادئ والقيم، وبالتالي فإنّ هذه المبادئ والقيم العاشورائية مرتبطة من جهة بالعقل ومن جهة أخرى بالعاطفة.
وبلحاظ ارتباط هذه القيم والمبادئ أيضًا بالإمام الحسين (عليه السلام)، ولا يمكن فصلها عنه لكونه المقرّر والمترجم لها على أرض الواقع، فإنّها حيثما استقرت سيكون هناك حضور أيضًا له،وهذا الحضور للإمام الحسين، في عاطفة وفكر العاشق، سيكون مُسْتَبِغًا بالقيمة العقائدية، بلحاظ كونه إمامًا مفروض الطاعة من قِبَل المولى تعالى، ولما يمثله أيضًا من كمال بشري.
وعليه فما يمثله الإمام الحسين (عليه السلام) من قيمة عقائدية، هو العنصر الذي سيعمّق حضور الإمام الحسين (عليه السلام) وكذلك قيمه ومبادئه في فكر ووعي أبناء مدرسة عاشوراء، كما أيضا سيقوي إلتفاف العاطفة حول هذه المبادئ والقيم وحول حضور صاحبها.
وأنواع هذه العلاقات، والترابطات المتبادلة بين العقل والعاطفة من جهة وبين حضور ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) ومبادئه وقيمه من جهة أخرى، في مستواها النظري المتميّز بكونه مُعَاشْ، هو عين ما نسمّيه بالفلسفة المُعَاشَة، والتي يتولد و يتأسّس عليها نوع خاص من العشق، سميناه بــــ «العشق الحسيني» الذي نشهد مظاهره الإنسانية تُتَرجَم في تظاهرة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، من قِبَل مختلف شرائح المجتمع البشري، بمختلف خلفياته الثقافية.
الكاتب: السيد حبيب مقدم التونسي
-
- القسم الأول: يحتوي على الملكات الإدراكية، التي من خلالها نعرف ونتصور الأشياء، وهو ما يُعبّر عنه عند عموم النّاس بالعقل.
- القسم الثاني: الملكات الشعورية، التي من خلالها نستشعر وننفعل بالأشياء، وهو ما يعيّر عنه أغلب النّاس بالقلب.