قد يبدو اتهام تركيا أردوغان بقتل السفير الروسي في أنقرة بشكل مباشر، منافيًا لقاعدة التحقيق الشهيرة "إبحث عن المستفيد"، ولكن حيث أن القاعدة الذهبية في التعامل مع أردوغان هي "أنه متهم حتى تثبت براءته"، وحيث ثبت أنه يمارس سياسة الابتزاز، وحيث ثبت أنه حرض وموَّل وسلَّح كل من مارس أفعالًا إرهابية وجرمية في سوريا، وحيث ثبت أنه تبادل السلع والمسروقات مع تنظيمات إرهابية وعصابات جرمية، وحيث أنه يقوم بالتحريض على روسيا منذ ما قبل تدخلها العسكري المباشر في سوريا، وحيث أنه يدرك أن رد الفعل الروسي لن يكون حصارًا وعقوبات وكل ما اتخذته روسيا من إجراءات وقت إسقاط تركيا لطائرتها، حيث أن أردوغان قام بالتوقيع على اتفاقية السيل التركي، وهو يعتقد أن روسيا لن تجازف بالتخلي عن هذه الاتفاقية تحت أي ظرف، وحيث أن كل تلك الانفعالات الشعبية المهووسة على شكل أفراح بقتل السفير، تصب في شعبية أردوغان البطل المنتقم بشكل غير مباشر رغم تبرؤه العلني.
وحيث ثبت أنه كاذب متلون ولا عهد له ولا ذمة، فمثلًا حين أسقطت تركيا الطائرة الروسية، كأن أردوغان أول المهللين والمهددين بالتكرار إن "تجاوزت" روسيا الحدود التركية، وحين لاحت بوادر المصالحة الروسية التركية، قال متبرئًا إن داوود أوغلو بصفته رئيسًا للوزراء هو أعطى الأوامر، فـ"دفع ثمن ذلك استقالته"، ثم تغيرت الرواية فكان أن أنصار الداعية فتح الله غولن-أستاذ أردوغان ونصيره السابق- الذين يخترقون الجيش هم من فعلوا، لا أوغلو ولا أردوغان ولا حتى الجيش التركي، إنما ثلة من الخونة، ورغم ذلك فما زال جماهير أردوغان يتغنون بأفعال من خانوه وأسقطوا الطائرة الروسية، كدليلٍ على صلابته وأنفته ومهابة جانبه، واليوم يتكرر نفس السيناريو ولكن مع سياسة حرق المراحل. فبدلًا من الابتداء بمرحلة الفخر ثم مرحلة كبش الفداء وصولًا لمرحلة الثلة الخائنة، تذهب القيادة التركية للمرحلة الأخيرة منذ البداية، فهي الثلة الخائنة أي جماعة غولن، وقد تكررت نفس الجملة الآتية على لسان المسؤولين الروس والأتراك "لن نسمح لمن يريد الإضرار بالعلاقات الروسية التركية بفعل ذلك"، ومن الواضح أن الأتراك يقصدون الثلة الخائنة، ولكن هل هذا ما يقصده الروس أيضًا؟ وكان من الممكن أن القبض على القاتل القتيل حيًا سيجيب عن بعض الأسئلة، ولكنه قُتل بعد اشتباك مع الأمن، والحقيقة أن بعد إطلاق القاتل لثماني رصاصات أو أكثر مع افتراض وجود مخزن إضافي، لو كان المكلف بالقبض عليه حيًا مخفر أم الطنافس بقيادة "أبو نادر" لفعل.
ذهب وزير الخارجية التركي في اليوم التالي إلى موسكو للإلتحاق بالاجتماع الثلاثي المقرر سلفًا، وقد تمحصت وجوه المسؤولين الروس وهم يجلسون قبالة الوفد التركي، منها ما يمتلئ بالغيظ ومنها ما يقطر غضبًا ومنها ما يتدفق بالدموع والأسى كما كان حال الناطقة باسم الخارجية، فالقاتل يجالسهم وما زال يحاول ابتزازهم حتى بعيدًا عن "السيل التركي"، بل وصل الأمر ليقول بوجوب وقف الدعم عن حزب الله، قد يبدو أن هذه رسالة ابتزاز لإيران وحسب، بحكم أنها الداعم الرئيسي للحزب، ولكن الحقيقة أنها رسالة لروسيا كذلك، فإنّ وجود حزب الله في غرفة عمليات يتواجد فيها الروسي، هي جزء من الدعم ولو بالمعرفة ومراكمة القدرة، كما أن روسيا التي لا تقر باللوائح الصهيونية التي تضع الحزب على لوائح الإرهاب، هو بحد ذاته دعم على الأقل في حدِّه القانوني، وهذا يعني أن التركي لم يأت معتذرًا ليدفع ثمن اعتذاره من مخزونه الاستراتيجي وهو الإرهاب، بل استبق ذلك بتصريحات من قبيل "إن عملية الاغتيال هي رصاصة أصابت تركيا"، وعليه فمن المفترض أن تكون التعزيات والاعتذارات متبادلة بين الجانبين، وأن ثمن التخلي عن الإرهاب هو تجريم الحزب ووقف الدعم عنه-وليس دماء السفير- كما تطلبون منا وقف دعم داعش والنصرة والزنكي ومئات الفصائل الإرهابية الأخرى، كما أن هذا هو مطلب حلفائنا "الإسرائيليين" والخليجيين والأمريكان على السواء، وقد يكون هؤلاء جميعًا متورطين في الأمر، ولكن أردوغان كعادته يحب تكريس نفسه كبطل ولو من خلف مايكروفون.
إن التعامل بهذا المنطق الاستفزازي مع دبٍ جريح ليس مأمون العواقب، ولكن هذا لا يعني رعونة روسية من خلف الشاشات و"المايكروفونات" كما عادة أردوغان، لكنه يعني ضغط روسي للحد الأقصى على الأتراك لدفع الثمن الباهظ عن نذالة وخسة جريمتهم، دون الالتفات لمحاولة الأتراك إدخال العملية في دوامة البحث والتحري وأزمات أردوغان الداخلية، خصوصًا إذا استطاع فريق التحقيق الروسي الإمساك ولو بطرف خيط نهايته في سبابة أردوغان، واللافت للانتباه فعلًا أن كل ما يسمى بـ"المعارضة السورية" المقيمة في تركيا، منذ ما قبل انعقاد الاجتماع الثلاثي، وهي تنعى الاجتماع ومقرراته، وأن تركيا رغم أنها صديقة للشعب السوري لكن لا نسمح لها بتقرير مصيره، ومن يعرف هذه المعارضة يعرف أنها لا تنطق إلا عن هوى جهاز المخابرات الذي يقوم بتشغيلها، وقد أتتهم الأوامر بقول ذلك ليكون إحدى أوراق جاويش أوغلو في اجتماع النكايات في موسكو. واسميه اجتماع النكايات لأنه بلا فائدة، فقد أصر الروس على عدم تأجيله نكاية في القاتل-الذي اعتبره أنا أردوغان- ليأتي ويدفع الثمن، وجاء الأتراك بنكاية "وقف الدعم عن حزب الله" ونكاية المرحلة الانتقالية، تلافيًا لدفع الثمن، لذلك فإن قابل الأيام سيظهر كيف ومتى سيدفع الأتراك الثمن وما هو، وستظهر الحد الأقصى الذي تحتمله روسيا ابتزازًا مقابل "السيل التركي"، وسيظهر الترجمة الفعلية لتصريح بوتين "إن المجرمين سيدفعون الثمن وسيشعرون بذلك". وإلى ذلك الحين، فإن ما يحدث حتى الآن أن أردوغان قتل سفير روسيا وجاء إليها طالبًا ديَّته.