لكاتب: د. حسين الحاج حسن
أثر مجزرة كربلاء على الإمام السجاد:
قبل المجزرة:
نشأ الإمام زين العابدين في بيت النبوة، بيت الوحي الذي تحمل المحن المتتالية والآلام القاسية والمصائب المؤلمة وكلها كانت في سبيل الله. استقبل الإمام (عليه السّلام) في طفولته المبكرة محنة جده أمير المؤمنين (ِعليه السّلام) وهو يتخبط بدمه في مسجد الكوفة بعد أن طعنه بخنجر مسموم ابن ملجم لعنه الله.
وبعدها في سن الشباب عاش محنة عمه الحسن وهو يلفظ كبده من السم الذي دسه إليه معاوية بن أبي سفيان (1). وتجرع في شبابه أيضاً، وهو طريح الفراش من مرض فتك به آنذاك، مصرع أبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، ومصرع إخوته وبني عمومته.
كما شاهد بأم عينه سبي عماته وأخواته من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، ورأى رؤوس الأهل والأصحاب الشهداء على الرماح يتقدمها رأس أبيه المظلوم الذي استشهد من أجل إحقاق الحق.
أثناء المجزرة:
كان علي بن الحسين أكبر ولد أبيه، معه (عليه السّلام) بطف كربلاء وقد أنهكه المرض، روى عنه أبو مخنف أنه قال (2): (إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني، اعتزل أبي في خباء له وعنده (جون) مولى أبي ذر الغفاري يعالج له سيفه ويصلحه وسمعته يقول:
يــــا دهـــــــر أف لك من خليل كــــم لك بــــالإشراق والأصيل
من صاحــــب وطـــــالب قــتيل والدهر لا يقــــــنع بـــــــالبديل
وكل حــــي ســـــالك سبـــــــيل ما أقرب الوعـــــد مـن الرحيل
لما سمعت هذه الكلمات المؤثرة في نفسي خنقتني العبرة، ولزمت السكوت وأيقنت أن البلاء واقع لا محالة. أما عمتي زينب (عليه السّلام) فإنها لما سمعت ما سمعت لم تملك نفسها أن وثبت تجر ذيلها حتى انتهت إليه ونادت بأعلى صوتها: واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن يا خليفة الماضين وثمال الباقين. فنظر إليها أبي وقال: يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان وأوصاها بالصبر وحفظ العيال.
وفي اللحظات الأخيرة من حياة أبيه دخل عليه وأوصاه قبيل وفاته بوصاياه وسلمه مواريث النبوة وكانت آخر وصية أوصاه بها: (يا بني أوصيك بما أوصى به جدك رسول الله علياً حين وفاته وبما أوصى به جدك علي عمك الحسن وبما أوصاني به عمك، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله، ثم ودعه ومضى إلى المعركة الأخيرة التي قتل فيها.
فيا لها من ساعة محزنة مؤلمة، ويا له من وداع تتفطر له القلوب إنه الوداع الأخير للأخوات والأهل وابنه الوحيد الذي لم يبق غيره من نسله. وداع الحياة الفانية ولقاء الحياة الأبدية الباقية في جنة الخلد مع أمه الزهراء، سيدة نساء العالمين، وأبيه علي أمير المؤمنين وأخيه الحسن المسموم المظلوم، وجده رسول الله خاتم الرسل والنبيين (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وعلي بن الحسين هو الذي دفن أباه والقتلى من أهله وأنصاره. ولما دخل الكوفة بعد ذلك، بعد أن نفض يديه من تراب الشهداء الأبرار، ومعه عماته وأخواته اجتمع عليهم الناس فهالهم ذلك المشهد وجعلوا يبكون وينوحون ويندبون، ولما أجهشوا بالبكاء أومأ إلى الناس أن يسكتوا ثم وقف وقد أنهكه المرض فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصللا عليه ثم قال:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، أنا ابن من قتل صبراً وكفى بذلك فخراً. ومضى يذكر أهل الكوفة بكتبهم ومواعيدهم وبما ارتكبوه من الفظائع حتى ضج الناس بالبكاء والعويل.
ولما أدخل على ابن زياد لعنه الله قال له: من أنت؟ قال: أنا علي بن الحسين، فرد عليه بقوله: أليس قد قتل الله علي بن الحسين، فأجابه الإمام: كان لي أخ يسمى علياً قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال الإمام: الله يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: أبك جرأة على رد جوابي، وأمر جلاوزته بقتله، فتعلقت به عمته زينب واعتنقته وقالت: يا بن زياد حسبك من دمائنا ما سفكت والله لا أفارقه فإن أردت قتله فاقتلني معه، فرق لها وتركه. ثم كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يأمره بإرسال رأس الحسين ورؤوس القتلى مع السبايا إلى الشام، أرسلهم إليه مع مخفر بن ثعلبة العائدي وشمر بن ذي الجوش، وجماعة من جنده، وكان كما يصفه الرواة مقيداً بالحديد، ولما بلغوا بهم الشام خرج أهلها إلى استقبالهم بأبهى مظاهر الزينة والفرح. جاء في البحار عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال:
خرجت إلى بيت المقدس، فلما توسطت الشام فإذا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علق أهلها الستور والحجب وهم فرحون، والنساء تلعب بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي أرى لأهل الشام عيداً لا نعرفه، فأقبلت على القوم وقلت لهم: يا قوم ألكم بالشام عيد لا نعرفه، فقالوا: يا شيخ نظنك غريباً، فقلت لهم: أنا صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سهل بن سعد الساعدي وقد رأيت رسول الله وسمعت حديثه، فقالوا: يا سهل ما أعجبك إن السماء لتمطر دماً والأرض لتنخسف بأهلها، فقلت لهم ولم ذاك: فقالوا: هذا رأس الحسين بن علي يهدى من أرض العراق إلى يزيد بن معاوية، فقلت: واعجباه رأس الحسين والناس يفرحون كما أرى، من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات، فبينما نحن في الحديث وإنا بالرايات يتلو بعضها بعضاً، وفارس بيده رمح منزوع السنان عليه رأس الحسين (عليه السّلام) من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووراءه نسوة على جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهن وقلت: من أنت؟ قالت: أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها: ألك حاجة إلي؟ أنا سهل بن سعد ممن رأى جدك رسول الله، قالت: يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يتقدم أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه عن النظر إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ففعل وتم له ذلك. ثم دعا يزيد أشراف الشام ووجوهها وأجلسهم حوله وأمر بإدخال الإمام زين العابدين والرؤوس والسبايا فأدخلوهم عليه مربطين بالحبال، فقال له علي بن الحسين: أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا على مثل هذه الحالة، فلم يبق أحد ممن كان حاضراً إلا بكى.
التفت يزيد إلى علي بن الحسين وقال: أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت، فقال علي بن الحسين: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يجب كل مختال فخور، فقال يزيد لابنه خالد: فلم يدر خالد ما يقول. فقال له يزيد: قل له ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
فقال له الإمام زين العابدين: يا بن معاوية وهند وصخر لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب في بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأبوك وجدك في أيديهم راية الكفار، ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيته لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور أبشر بالخزي والندامة إذا اجتمع الناس ليوم الحساب.
وروى الرواة أن يزيد بن معاوية أمر أحد أنصاره من المرتزقة عنده أن يصعد المنبر وينال من علي والحسين والحسن ويثني على معاوية فصعد الخطيب المنبر وأفاض في ذلك على معاوية ونال من علي والحسن والحسين (عليه السّلام)، فقال له الإمام السجاد: ويلك أيها المتكلم أتشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار، ثم التفت إلى يزيد وقال: أتسمح لي أن أصعد هذه وأتكلم بكلمات فيها لله رضا ولهؤلاء الجلوس أجر وثواب، فلم يأذن له يزيد بذلك. فقال له من في المجلس: إئذن له يا أمير لنسمع ما يقول، فرد عليهم يزيد بقوله: إذا صعد المنبر لا ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقيل له: وما قدر ما يحسن هذا الغلام، فقال كما يزعم الرواة: إنه من أهل بيت زقوا العلم زقاً. فلم يزالوا حتى أذن له فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وقال:
أيها الناس لقد أعطينا ستاً وفضلنا بسبع. أعطينا: العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة وفضلنا بأن النبي المختار (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منا، والصديق منا، والطيار منا، وأسد الله وأسد رسوله منا والسيدة الزهراء منا وسبطا هذه الأمة منا ثم تابع قائلاً:
(أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردى، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى أنا ابن من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج البيت الحرام ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهوا، أنا ابن من أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من سعى به جبريل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السما، أنا ابن من أوحى الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى وعلي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين وبايع البيعتين وطعن برحمين وهاجر الهجرتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر بالله طرفة عين... ولم يزل يقول ويعدد أنا أنا... مآثر جديه رسوله الله وأمير المؤمنين وأبيه أبي عبد الله الحسين ويذكر ما جرى في طف كربلاء حتى ضج الناس جميعاً بالبكاء والنحيب حتى خشي يزيد أن ينتفض أهل الشام عليه فأمر المؤذن بالأذان ليقطع حديث الإمام السجاد. فلما قال المؤذن: الله أكبر قال علي (عليه السّلام): لا شيء أكبر من الله، ولما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال الإمام (عليه السّلام): شهد بها لحمي ودمي وبشري وشعري، ولما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، التفت علي بن الحسين إلى يزيد بن معاوية وقال: محمد هذا جدي أم جدك، فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته؟!
وأضاف الراوي أنه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود فقال ليزيد: من هذا الغلام؟ فقال: هو علي بن الحسين، وسأله اليهودي عن جده وأبيه وأمه فأخبره بنسبه حتى انتهى إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال اليهودي: يا سبحان الله لقد قتلتم ابن بنت نبيكم بهذه السرعة بئس ما خلفتموه في ذريته، والله لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لظننا أنا كنا نعبده من دون الله، وأنتم قد فارقتم نبيكم بالأمس ووثبتم على ابنه فقتلتموه فسوءة لكم من أمة.
بعد المجزرة:
يروي الرواة أن يزيد بن معاوية خيَّر الإمام زين العابدين بين البقاء في الشام أو الرجوع إلى المدينة فاختار الرجوع إليها لأن له فيها ذكريات لا يمكن أن يمحى من ذاكرته ومن ذاكرة التاريخ عرج الموكب على كربلاء وكان فيها جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم قد شدوا الرحال لزيارة قبر الإمام الحسين فتلاقى الجميع بالبكاء والعويل وأقاموا المأتم واجتمع إليهم من كان في جوار كربلاء من القبائل النازلة على الفرات، وبعد أيام مضى الموكب في طريقه إلى المدينة.
الإمام زين العابدين في المدينة:
كانت المدينة تترقب أنباء سبط رسول الله بفارغ الصبر عندما خرج إلى الكوفة ملبياً نداء شيعته هناك. ولكن الذي راعها وأخذ منها صوت مناد ينادي: إن علي بن الحسين قد قدم إليكم مع عماته وأخوته، إذاً يا ترى أين الإمام الحسين؟ وأين النجوم الزاهرة والصحبة الطاهرة من بني الزهراء وآل عبد المطلب. انتشر الخبر (النعي) في كل الأرجاء حتى بلغ سفح أحد، ثم ارتد إلى البقيع فقباء، وما لبث أن تلاشى مع صراخ النائحين وعويل النائحات، لم تبق مخدرة في المدينة إلا خرجت من خدرها نائحة معولة. وأهل الركب الحزين يشاهدون الجموع التي خرجت لاستقباله.
حزنت مدينة الرسول حزناً عميقاً على العترة الطاهرة وأقامت أياماً بلياليها تشهد المأتم الرهيب لا يعكر صفوها سوى اليتامى والأرامل والثكالى يسعين كل يوم إلى القبور فيبكي لهن الأصدقاء والأعداء.
زوجة الإمام علي (عليه السّلام) كانت تخرج إلى البقيع لتبكي أبناءها الأربعة: عبد الله وعثمان وجعفراً والعباس. وتندبهم بندبة حزينة تحرق قلب كل من سمعها، حتى قلب مروان بن الحكم، عدو الطالبيين.
والرباب عادت بعد مصرع ابنها إلى المدينة وبقيت تنوح وتبكي سنة حتى ضعفت وماتت.
وأما السيدة زينب بطلة كربلاء فدموعها غزيرة جداً لأن اللهيب في قلبها أطفأ تلك الدموع فهبت تطلب ثأراً، لأن هذا الدم المسفوح لا ينبغي أن يضيع هدراً كان وجودها في المدينة كافياً لأن يلهب القلوب المؤمنة بالحق على الشهداء، ويؤلب الناس على حكم الطغاة وجورهم، وهذا ما ضايق الحكام الأمويين، فكتبوا إلى واليهم في المدينة.
(إن وجودها بين أهل المدينة مهيج للخواطر وإنها فصيحة عاقلة لبيبة، وقد عزمت هي ومن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين) عندها أمره الطاغية يزيد أن يفرق البقية الباقية من آل البيت في الأقطار والأمصار (3). ولما علمت (عليها السّلام) بالخبر قالت غاضبة:
(وقد علم والله ما صار إلينا قتل خيرنا وسيق الباقون كما تساق الأنعام وحملنا على الأقتاب فوالله لا خرجنا وإن أريقت دماؤنا).
لم تعش السيدة زينب (عليه السّلام) بعد مقتل أخيها الحسين الشهيد وإمام الشاهدين سوى عام ونصف العام، لكنها استطاعت في هذه الفترة القصيرة أن تقلق مضاجع الأمويين وتغيّر مجرى التاريخ. لقد ظن حكام بني أمية أن مقتل الحسين يسدل الستار على الفصل الأخير على المسرحية الكربلائية وما نحسبه يسدل حتى تتبدل الأرض ومن عليها!
الإمام الحسين (عليه السّلام) باق في المهج والأرواح، ومأساة الحسين مأساة إنسانية خالصة تأخذ بلب كل إنسان وتستثير مشاعر جميع الشرفاء.
الحسين شهيد وإمام الشاهدين، والشاهدية حضور تام في الذات والمجتمع والكون، تولد منها الشهادة عملاً لذلك الحضور. إن الغمامة المحملة بإيحاءات البحر، ونسمات الفلك فتحت فمها لتقول كلمة الحق، كلمة العودة إلى المنبع، مثلما تئن الأوتار والنايات وتصفر العلائم الموسيقية منسلة من الجسد لتعود إلى قلب الأرض وهي تحدو حول الشمس حداء الصيرورة، وهو في الوقت ذاته نشيد الحب الأكبر والجمال الأعظم والجلال المطلق.
كلمة الحسين الشاهدة الملتزمة تقول الموت البطولي كما لم تقله شهادة في تاريخ الأرض، لأنها عبارة جده الرسول الأعظم التي كتبها من فوح القرآن وسوف تبقى ما بقي أنبل إنسان، ولا يستطيع أن يخفيها أو يغيّر مجراها بنو مروان أو بنو سفيان مهما تصنعوا في الظلم والبهتان.
خطبته في المدينة:
والناس يزدحمون حول فسطاطه وكان معه بشر بن حذلم، خرج الإمام ليقابل الجموع الغفيرة المحتشدة لتقدم التعازي، ومعه خرقة يمسح بها دموعه. أخرج الخادم له كرسياً فجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة، ارتفعت أصوات الناس بالبكاء من حوله فأومأ بيده إليهم أن اسكتوا وقال:
(الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، بارئ الخلق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الغاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. ثم
تابع قائلاً: إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة قتل أبو عبد الله وعترته وسبي نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.
أيها الناس فأي الرجالات منكم يسرون بعد قتله أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن أنهما لها وأي قلب لا يتصدع لقتله، وأي فؤاد لا يحن إليه، وأي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم. أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأبصار من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هذا إلا اختلاق، والله لو أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفظعها وأمرها وأفدحها فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منا إنه عزيز ذو انتقام.
عندما سمع الجماهير خطابه هذا أثر في نفوسهم إلى حد بعيد فارتج المكان بالبكاء والعويل وشعر المسلمون بتلك الصدمة العنيفة التي أصابت الإسلام في الصميم. مما أثار في ضمائرهم الهامدة روح النضال والدفاع عن الحق المهدور، ودب في نفوسهم الشعور بالإثم والتقصير، فلم السكوت عن كرامتهم التي أصبحت تداس تحت أقدام يزيد الفاجر والمجرم بعد أن أقدم على قتل سبط الرسول وريحانته وسبى نسائه.
من هنا كانت ثورة التوابين والمختار بن أبي عبيدة الثقفي فقد استماتوا لأخذ ثأر الدم المهدور وذلك للتكفير عن تخاذلهم عن نصرة الإمام الحسين والخضوع للظالمين. ثم استمرت الثورات تقودها روح كربلائية حطمت عروش الأمويين الطغاة وقامت بعدها دولة العباسيين.
دخل الإمام زين العابدين المدينة وهو يكفكف دموعه، فرآها موحشة يخيم على أهلها الحزن والأسى، وديار أهله خالية تنعى سكانها فانصرف عن شؤون الناس ولم يكن يعنيه شيء من الدنيا ومن فيها. فشرع يبكي على أبيه المظلوم وعلى أخوته وعمومته الشهداء حتى عده المحدثون البكائين.
فماذا يعمل؟ أيأخذ بالثأر، أم يصبر وفي العين قذى؟ إن الظروف لا تسمح له بأخذ الثأر وقد شاهد تلك المصيبة الفادحة والمؤلمة في كربلاء، وأدرك أن وقعة الطف الدامية قد كفته أعباء الحرب بإظهارها ضلال الأمويين وظلمهم وطغيانهم. وهنا بعد أن تحمل أعباء الخلافة الإلهية من أبيه وأصبح حجة على خلقه، آثر الاعتزال والبعد عن الضجيج ليحفظ دمه الذكي ودم شيعته الأبرار.
روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: (البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلي بن الحسين (عليهم السّلام).
فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية.
وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له: (تالله تفتئ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين).
وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على واحدة منهما.
وأما فاطمة فبكت على رسول الله حتى تأذى بها أهل المدينة، فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتى تنقضي حاجتها.
وأما علي بن الحسين فبكى على أبيه عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولاه: أما آن لحزنك أن ينقضي فقال له: ويحك إن يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه وشاب رأسه واحدودب ظهره من الحزن وابنه حي في دار الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر رجلاً من أهل بيتي مضرجين بدمائهم حولي فكيف ينقضي حزني.
وكان (عليه السّلام) لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها ما جرى لأبيه واسرته في كربلاء، وأحياناً كان يبحث عن المناسبة ليحدث بما جرى لأهل بيته، فيذهب إلى سوق الجزارين في المدينة ويقف معهم يسألهم عما إذا كانوا يسقون الشاة ماءً قبل ذبحها، وعندما يسمعهم يقولون: إنا لا نذبح حيواناً قبل أن نسقيه ولو قليلاً من الماء. فيبكي ويقول: لقد ذبح أبو عبد الله غريباً عطشاناً فيبكون لبكائه حتى ترتفع الأصوات بالنحيب.
كان إذا رأى غريباً في الطريق دعاه إلى ضيافته وطعامه، ثم يبكي ويقول: لقد قتل أبو عبد الله غريباً جائعاً عطشاناً في طف كربلاء. إلى غير ذلك من المواقف التي كان يقفها بعد مقتل أبيه في السنين الأولى وذلك ليشحن النفوس بالحقد على الظالمين ويهيئها للثورة عندما يحين الوقت المناسب. كما ساهمت عمته زينب (عليها السّلام) في هذا النوع من التحرك السياسي. هذا اللون من الحزن المتواصل يثير عواطف الجماهير ويغضبها ويدب فيها النقمة على يزيد الطاغية وجلاوزته المجرمين. إثر ذلك خيّم على المدينة جو من القلق ينذر بتفجير الموقف بين حين وآخر لقد استطاع الإمام زين العابدين وعمته العقيلة زينب (عليهما السّلام) تعبئة النفوس للثورة بترديدهما لتلك المأساة والنوح المتواصل الذي ألهب النفوس بانتظار الوقت المناسب للأخذ بالثأر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - أمه هند آكلة الأكباد وقد استعمل معاوية السم في العسل مع كثير من خصومه، وهو القائل: (إن لله جنوداً من عسل).
2 - راجع طبقات ابن سعد.
3 - بطلة كربلاء للدكتورة بنت الشاطئ.
بتصرف في العنوان