اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
تمهيد للمؤلف
يمثل هذا الكتاب تصورات لتجسم أعمال الإنسان وانعكاساتها في عالم الآخرة ، هذه التصورات تبادرت إلى الذهن استلهاماً من الآيات والروايات ، على أمل أن تكون دافعاً للتنبّه واليقظة.
لا شك في أننا نجهل تفاصيل ما يجري على القابعين في التراب وأهل البرزخ لا سيما وأنّ الآيات قليلاً ما تطرقت إلى ذلك ،والروايات وحدها التي أخبرتنا عن جزء يسير من أسرار عالم الأرواح، وإنني أعترف بأن هذه الرحلة منذ بدايتها وحتى نهايتها لا تفي بما يطمح إليه القراء الكرام وبالذات أهل الفن والمطالعة ، وعطفاً على ما تقدم أرى من الضروري الإشارة إلى ما يلي :
1- فيما يتعلق بشخصية القصة : إن للإنسان في عالم المادة جسدين أحدهما الثقيل الذي يحمل الروح ولا تنفصل عنه إلا عند الموت حيث يدفن تحت التراب ، والآخر جسد شفاف ومجرد كالروح ولا معنى للزمان والمكان بالنسبة له ، وهو مانشاهده في المنام كثيراً .
وبطل القصة هو الجسد الشفاف ، وبتعبير آخر الجسد البرزخي المثالي وهو ذو أعضاء وجوارح ، لكنها ليست مادية ، وأفضل ما نعبر به عن مثل هذا الجسد هو ما يصور روح الإنسان لا الذي يحددها، وقد ورد في الروايات حول كيفية حضور الإنسان في البرزخ أنه يحضر : كقالبه في الدنيا كهيئة الأجساد في صورة كصورته.
2- بالرغم من القول بأن عالم البرزخ هو عالم المثال وصوروه بمثل الدنيا وليس منها ، لكنه عالم أوسع من الدنيا ، وكما يذهب البعض أنه يشبه الدنيا في اشتماله على الزمان والمكان لكنه ليس من نوعها ومرادنا من القول بالأمكنة هو لبيان حالة الروح فقط .
إن تعبير القرآن الكريم بدار السلام ، وتعبير الروايات بوادي السلام باعتباره مكان تستقر فيه أرواح المؤمنين إنما هو لبيان السعادة والسرور والأمن والسلام الذي تتمتع به روح المؤمن وهذا ما يحتاج إلى سعي حثيث ومجاهدة بالغة لغرض بلوغه.
وكذا برهوت فهي ليست من صحاري هذه الدنيا ، بل هي تفيد صورة العذاب يمثل اجتيازه غاية السعادة ، والمكوث فيه غاية الشقاء.
3- بودي التأكيد هنا على أن عالم البرزخ يمثل مرآة القيامة الكبرى سواء للمؤمن أو الكافر . وقد جرت الإشارة إلى ذلك في مجرى القصة، وبناء على ذلك ننوه إلى ما يلي :
أ- نظراً لحتمية المرور على الصراط يوم القيامة ،وكما يعبر الإمام علي (ع) (( واعلموا أن مجازكم على الصراط )) ، ولا شك في صعوبة الجواز على الصراط بالنسبة لبعض المؤمنين . فقد اخترنا الجواز على برهوت البرزخ كتعبير عن صراط القيامة . ولكن كيف تكون الحقيقة ؟ الله أعلم .
ومن خلال رؤية أخرى ، استناداً لما ورد في الآية 7 من سورة مريم (( وإن منكم إلا واردها )) – كما تقدم القول فإن صورة مصغرة من ذلك البرهوت موجودة في البرزخ – بيد أن النجاة منه تكون حليف المتقين أما الظالمين فيُلقون فيه .
ب – في ضوء القول بأن (( البرزخ صورة مصغرة عن القيامة )) فقد جرى الاستفادة من بعض الآيات والروايات التي توضح أحوال القيامة بصراحة ، في تصوير عالم البرزخ
وفي الختام لابد من التأكيد على أن هذا الكتاب بيان لواقعة وليس لقصة يطبعها فن كتابة القصة ، وأُ ذكر بالمساعي التي بذلت في هذا الكتاب لأن تخرج المطالب بصورة موضوعية مترابطة وجرى تدوينها بأسلوب يسيط ، وأن لا تتأثر جذابيتها تحت وطأة المواعظ .
الفصل الأول
البرزخ
البرزخ
الاحتضار
منذ أيام عمّ الألم جسدي وأخذ يؤذيني .... وبدأت علامات الموت تدنو مني وحلّت بي حالة الاحتضار.
أداروا برجليّ نحو القبلة، وأحاط بي زوجتي وأبنائي وأقربائي وبعض أصدقائي، ومنهم من ترقرقت دموع عينيه ، أغمضتُ عينيّ بهدوء وغرقتُ في بحر أفكاري ، وأخذتُ أفكر مع نفسي ، بمَ قضيتُ عمري ، ومن أين لملمت أموالي - رغم قلتها – وأين أنفقتها ؟
لقد كان التفكير بذلك يؤلمني كثيراً ، ومن شدة القلق فتحت عيوني .
الموت (( خروج الروح من الجسد ))
((الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ))
أداروا برجليّ نحو القبلة، وأحاط بي زوجتي وأبنائي وأقربائي وبعض أصدقائي، ومنهم من ترقرقت دموع عينيه ، أغمضتُ عينيّ بهدوء وغرقتُ في بحر أفكاري ، وأخذتُ أفكر مع نفسي ، بمَ قضيتُ عمري ، ومن أين لملمت أموالي - رغم قلتها – وأين أنفقتها ؟
لقد كان التفكير بذلك يؤلمني كثيراً ، ومن شدة القلق فتحت عيوني .
الموت (( خروج الروح من الجسد ))
((الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ))
في تلك الأثناء انتبهت إلى وجود شبح طويل القامة يرتدي ثياباً بيضاء قد نشب يديه على أطراف أصابع قدميّ وأخذ يتجه نحو الأعلى من جسدي ، ولم أكن أشعر بالألم عندما كان عند قدميّ لكن الألم أخذ يزداد كلما ارتفع نحو الأعلى وكأن الألم بأجمعه أخذ يتحرك إلى الأعلى من جسدي ،حتى وصلت يده إلى حلقومي ، حينها أصبح جسدي بلا شعور ، بيد أن رأسي أصبح ثقيلاً بحيث كنت أشعر بأنه سينفجر من شدة الضغط ، أو أن عينيّ ستخرجان من حدقتيهما .
تقدم عمي الشيخ العجوز نحوي وقد امتلأت عيناه بالدموع وقال لي : ياولدي اقرأ الشهادتين ، أنا أقرأها وأنت رددها معي : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وأن علياً ولي الله ....
لقد كنت أراه وأسمع صوته ، فتحركت شفتاي ببطء ، وما أن أردت التلفظ بالشهادتين حتى أحاطت بي أشباح سوداء وألحّوا عليّ أن لا أنطق بالشهادتين. لقد كنت سمعت بأن الشياطين تحاول سلب إيمان المرء عند موته، لكنني لم أكن أتصور أبداً إنهم يفلحون في صدي.
ومرة أخرى أدنى عمي وجهه مني وتلفظ بالشهادتين، ولما أردت تحريك لساني تحرك الشياطين مرة أخرى ولكن عن طريق التهديد في هذه المرة .
لقد كانت لحظات عجيبة ، فمن ناحية كان الذي يرتدي ثياباً بيضاء يمارس أعمالاً مدهشة . ومن جهة ثانية ، كنت أواجه إصرار عمي على النطق بالشهادتين ، وثالثة محاولات الأشباح الخبيثة في سلب إيماني في آخر لحظات حياتي .
ثقل لساني وكأن شفتي قد خبطت مع بعضها ، لقد اعتراني العجز ، وكنت أريد الخلاص من هذا الوضع المؤلم ولكن كيف ؟ وعن أي طريق ؟ وبواسطة من ؟ في غضون ذلك التجاذب ظهرت من بعيد أنوار ساطعة فقام ذلك الرجل ذو الثياب البيضاء إجلالاً لها ولّت تلك الوجوه القبيحة هاربة ، ورغم عدم معرفتي في تلك اللحظات لتلك الأنوارالطاهرة الفريدة لكنني عرفت فيما بعد أنهم الأئمة الأطهار (ع) قد حضروني في اللحظات الحساسة وببركة وجودهم أشرق وجهي وانفتح لساني فحركت شفتيّ ونطقت بالشهادتين هنا امتدت يد ذلك الرجل ذي الثياب البيضاء لتمسح على وجهي ، وشعرت بالاطمئنان بعد أن كنت أعاني شدة الألم والاضطراب.
لقد أصبحت وكأنني ألقيت الآلام والعذاب بأجمعه على كاهل أهل الدنيا لأنني شعرت بالاستقرار وكأنني لم أرَ حرية واستقراراً كالذي عشته في ذلك اليوم فقد انفتح لساني وأشرح عقلي . كنت أرى الجميع وأسمع أحاديثهم. هنا وقعت عيناي على ذلك الرجل ذي الثياب البيضاء فسألته : من أنت ؟ وماذا تريد مني ؟ فإنني أعرف كل الذين حولي إلا أنت ، فقال : كان عليك أن تعرفني ،أنا ملك الموت ، فاضطربت لسماع اسمه واهتز كياني ، فوقفت أمامه أتخضع وقلت : السلام عليك يا ملك ربي فلطالما سمعت باسمك ومع ذلك لم أستطع معرفتك حين الموت ، هل تريد الإذن مني كي تقبض روحي ؟
فأجاب ملك الموت مبتسماً : إنني لا أحتاج إلى إذنٍ من أي أحد لأنتزع روحه من جسده ، وإذا ما تأملت جيداً سترى إنك قد ودعت الحياة الفانية ، انظر إلى جسدك قد بقي بين أهل الأرض ، فنظرت إلى الأسفل فاستحوذت عليّ الدهشة والحيرة ، إذ أن جسدي مطروح على الأرض بلا حراك بين أقربائي ومعارفي ، فيما كانت زوجتي وأبنائي وكثير من الأقارب يحومون من حولي وهم يبكون وترتفع صرخاتهم إلى عنان السماء وأخذ آخرون بالشكوى والتساؤل : لقد تعجل عليه الموت ، لماذا ؟
أخذت أفكر مع نفسي : لِمَ ينوح هؤلاء ؟ ومن أجل من ؟ أردت دعوتهم لالتزام الهدوء ، وهل يكون ذلك ؟ .... صرخت فيهم: أيها الأعزاء التزموا الهدوء، أما تريدون راحتي واستقراري ؟ فلماذا هذا التفجع والحزن ؟
بعد الألم المضني أصبحت الآن في كامل الراحة والسعادة .
إنني أخاطبكم أما تسمعون ؟ لِمَ هذا البكاء ؟ ممّ عويلكم وبكاؤكم ؟ نوروا الدار بالدعاء وذكر الحق تعالى .
استمر عويل واستغاثة الحاضرين ، يعلو ويعلو ، هنا سمعت صوت ملك الموت يقول : ما الذي دهى هؤلاء ؟ مم ّصراخهم وعويلهم ؟ ولِمَ هذه الشكوى والتفجع ؟ لِمَ هذا البكاء واللطم على الرؤوس ؟ أقسم بالله إنني لم أرتكب ظلماً بحقه ، فلقد نفذ رزقه في هذه الدنيا ، ولو كنتم مكاني لقبضتم روحي بأمر من الله ، اعلموا أن دوركم سيأتي يوماً ما ، وسأتردد على هذه الدار حتى لا أدع أحداً فيها ، إن عبادتي وطاعتي لله هي أن أقطع كل يوم وليلة أيدي الكثيرين عن هذه الدنيا .
الناس مستمرون بعملهم لا يسمعون هذه الإنذارات . تمنيت لو كنت سمعت هذه الإنذارات ولو مرة واحدة في الحياة الدنيا كي تكون عبرة لي ... لكن واحسرتاه ثم واحسرتاه !!
لفوني بقطعة قماش وبعد ساعة حملوني إلى المغتسل ، إنه مكان معروف لدي فطالما جئت هنا لغسل أمواتنا ، وهنا لفت انتباهي المغسل حيث كان يقلبني كيف شاء ودون عناء ، ونظراً لعنايتي بجسمي فقد صرخت بالمغسل : تمهل قليلاً ! أرفق بي ! فقبل لحظات خرجت الروح من هذه العروق فأضعفتها وأعجزتها... لكنه واصل عمله دون أدنى عناية بمطالبي المتكررة.
انتهى الغسل، ثم لفوني بذلك الكفن الذي كنت قد اشتريته بنفسي... لقد كنت أفكر آنذاك بأن شراء الكفن إنما هو عمل روتيني، ولكن ما أسرع أن لف جسدي بالبياض. حقاً إن الدنيا دار جواز.
وعند سماعي لنداء الصلاة .. الصلاة .. الصلاة .. دخلني نوع من الطمأنينة .
التشييع
(( أنا راحل ، وثقوا إنكم ستلحقون بي ، ولا تتصوروا أن الموت خلق لغيركم ، عجباً لكم تشاهدون الموت ولا زلتم غافلين))
لما انتهت الصلاة حملوا جنازتي على أيديهم ، ومرة أخرى بعثت صرخات الشهادتين الطمأنينة في نفسي ، ولعلاقتي بجسدي أمسكت بأعلى الجنازة وأخذت أسير معها .
لقد كنت أعرف المشيعين جيداً ، مجموعة أمسكت بقاعدة التابوت ، وأخرى تمشي خلفه ، كنت أسمع أصواتهم وأحاديثهم ، حتى أن باطن الكثير منهم قد انكشف لي ، ومن هنا قد اعتراني السرور لحضور البعض ، فيما كان حضور آخرين يؤذيني حيث كانت الرائحة الكريهة المنبعثة منهم تعذبني ، كنت أرى بعضهم على هيئة قردة في حين كنت أحسبهم في الدنيا من الصالحين . من جانب آخر نظرت إلى أحد معارفي فداعبت روحي رائحة العطر المنبعثة منه ، وقد كنت في الدنيا لا أكنّ له الاحترام وذلك للبساطة الطاغية على ظاهره ، وربما أسقطته في عيني غيبة الآخرين له وو .... كان التابوت يسير مرفوعاً على أكتاف الأصدقاء وكنت أرافقهم والقلق من المستقبل يهيمن عليّ .
الوقت الذي كانت ألسنة الكثير من المشيعين تترنم بنداء ( لا إله إلا الله ) كان اثنان من أصدقائي يتهامسان فيما بينهما فدنوت منهما وأنصت لحديثهما، واعجباً ! متى تستيقظان من غفلتكما ؟ أتتحدثان عن معاملة وصكوك مرفوضة وأرباح و ... ؟ كان من الأفضل أن تفكرا في هذه اللحظات بآخرتكما ، بذلك اليوم الذي سيحل عليكما وينقض عليكما الموت ! إذ ستنقطع أيديكما عن الأرض والسماء وتغلق صحيفة أعمالكما وتطلبان الفرصة مثلي ، حينها لن تحصلا على الإذن بالعودة وستعضان على أيدي الندامة : يا ليتنا قد فكرنا بهذه الدنيا الباقية في تلك الدنيا الزائلة.
أيها الأصدقاء ! إنني أدعو لكم أن تعمر دنياكم وتكون آخرتكم أكثر عمراناً ، ولكن أقسم عليكم بالله أن تستيقظوا من غفلتكم وفكروا جيداً ، وإذا لم تفكروا بي ففكروا بآخرتكم على أقل تقدير ، فكروا بذلك اليوم حيث ستلتحقون بي . امضوا هذه اللحظات بذكر الموت ، فإذا لم تفكروا بالموت هنا ، فأين ستعودون إلى أنفسكم ؟ كأن الموت لم يخلق لكم ؟ عجباً لكم تنظرون إلى الموت ولا زلتم غافلين .
وهنا توجهت إلى أهلي وعيالي قائلاً :
أيها الأعزاء ! لا تغرنكم الدنيا كما غرتني ، لقد أجبرتموني على جمع الأموال التي لذاتها لكم وتبعاتها علي .
فأجاب ملك الموت مبتسماً : إنني لا أحتاج إلى إذنٍ من أي أحد لأنتزع روحه من جسده ، وإذا ما تأملت جيداً سترى إنك قد ودعت الحياة الفانية ، انظر إلى جسدك قد بقي بين أهل الأرض ، فنظرت إلى الأسفل فاستحوذت عليّ الدهشة والحيرة ، إذ أن جسدي مطروح على الأرض بلا حراك بين أقربائي ومعارفي ، فيما كانت زوجتي وأبنائي وكثير من الأقارب يحومون من حولي وهم يبكون وترتفع صرخاتهم إلى عنان السماء وأخذ آخرون بالشكوى والتساؤل : لقد تعجل عليه الموت ، لماذا ؟
أخذت أفكر مع نفسي : لِمَ ينوح هؤلاء ؟ ومن أجل من ؟ أردت دعوتهم لالتزام الهدوء ، وهل يكون ذلك ؟ .... صرخت فيهم: أيها الأعزاء التزموا الهدوء، أما تريدون راحتي واستقراري ؟ فلماذا هذا التفجع والحزن ؟
بعد الألم المضني أصبحت الآن في كامل الراحة والسعادة .
إنني أخاطبكم أما تسمعون ؟ لِمَ هذا البكاء ؟ ممّ عويلكم وبكاؤكم ؟ نوروا الدار بالدعاء وذكر الحق تعالى .
استمر عويل واستغاثة الحاضرين ، يعلو ويعلو ، هنا سمعت صوت ملك الموت يقول : ما الذي دهى هؤلاء ؟ مم ّصراخهم وعويلهم ؟ ولِمَ هذه الشكوى والتفجع ؟ لِمَ هذا البكاء واللطم على الرؤوس ؟ أقسم بالله إنني لم أرتكب ظلماً بحقه ، فلقد نفذ رزقه في هذه الدنيا ، ولو كنتم مكاني لقبضتم روحي بأمر من الله ، اعلموا أن دوركم سيأتي يوماً ما ، وسأتردد على هذه الدار حتى لا أدع أحداً فيها ، إن عبادتي وطاعتي لله هي أن أقطع كل يوم وليلة أيدي الكثيرين عن هذه الدنيا .
الناس مستمرون بعملهم لا يسمعون هذه الإنذارات . تمنيت لو كنت سمعت هذه الإنذارات ولو مرة واحدة في الحياة الدنيا كي تكون عبرة لي ... لكن واحسرتاه ثم واحسرتاه !!
لفوني بقطعة قماش وبعد ساعة حملوني إلى المغتسل ، إنه مكان معروف لدي فطالما جئت هنا لغسل أمواتنا ، وهنا لفت انتباهي المغسل حيث كان يقلبني كيف شاء ودون عناء ، ونظراً لعنايتي بجسمي فقد صرخت بالمغسل : تمهل قليلاً ! أرفق بي ! فقبل لحظات خرجت الروح من هذه العروق فأضعفتها وأعجزتها... لكنه واصل عمله دون أدنى عناية بمطالبي المتكررة.
انتهى الغسل، ثم لفوني بذلك الكفن الذي كنت قد اشتريته بنفسي... لقد كنت أفكر آنذاك بأن شراء الكفن إنما هو عمل روتيني، ولكن ما أسرع أن لف جسدي بالبياض. حقاً إن الدنيا دار جواز.
وعند سماعي لنداء الصلاة .. الصلاة .. الصلاة .. دخلني نوع من الطمأنينة .
التشييع
(( أنا راحل ، وثقوا إنكم ستلحقون بي ، ولا تتصوروا أن الموت خلق لغيركم ، عجباً لكم تشاهدون الموت ولا زلتم غافلين))
لما انتهت الصلاة حملوا جنازتي على أيديهم ، ومرة أخرى بعثت صرخات الشهادتين الطمأنينة في نفسي ، ولعلاقتي بجسدي أمسكت بأعلى الجنازة وأخذت أسير معها .
لقد كنت أعرف المشيعين جيداً ، مجموعة أمسكت بقاعدة التابوت ، وأخرى تمشي خلفه ، كنت أسمع أصواتهم وأحاديثهم ، حتى أن باطن الكثير منهم قد انكشف لي ، ومن هنا قد اعتراني السرور لحضور البعض ، فيما كان حضور آخرين يؤذيني حيث كانت الرائحة الكريهة المنبعثة منهم تعذبني ، كنت أرى بعضهم على هيئة قردة في حين كنت أحسبهم في الدنيا من الصالحين . من جانب آخر نظرت إلى أحد معارفي فداعبت روحي رائحة العطر المنبعثة منه ، وقد كنت في الدنيا لا أكنّ له الاحترام وذلك للبساطة الطاغية على ظاهره ، وربما أسقطته في عيني غيبة الآخرين له وو .... كان التابوت يسير مرفوعاً على أكتاف الأصدقاء وكنت أرافقهم والقلق من المستقبل يهيمن عليّ .
الوقت الذي كانت ألسنة الكثير من المشيعين تترنم بنداء ( لا إله إلا الله ) كان اثنان من أصدقائي يتهامسان فيما بينهما فدنوت منهما وأنصت لحديثهما، واعجباً ! متى تستيقظان من غفلتكما ؟ أتتحدثان عن معاملة وصكوك مرفوضة وأرباح و ... ؟ كان من الأفضل أن تفكرا في هذه اللحظات بآخرتكما ، بذلك اليوم الذي سيحل عليكما وينقض عليكما الموت ! إذ ستنقطع أيديكما عن الأرض والسماء وتغلق صحيفة أعمالكما وتطلبان الفرصة مثلي ، حينها لن تحصلا على الإذن بالعودة وستعضان على أيدي الندامة : يا ليتنا قد فكرنا بهذه الدنيا الباقية في تلك الدنيا الزائلة.
أيها الأصدقاء ! إنني أدعو لكم أن تعمر دنياكم وتكون آخرتكم أكثر عمراناً ، ولكن أقسم عليكم بالله أن تستيقظوا من غفلتكم وفكروا جيداً ، وإذا لم تفكروا بي ففكروا بآخرتكم على أقل تقدير ، فكروا بذلك اليوم حيث ستلتحقون بي . امضوا هذه اللحظات بذكر الموت ، فإذا لم تفكروا بالموت هنا ، فأين ستعودون إلى أنفسكم ؟ كأن الموت لم يخلق لكم ؟ عجباً لكم تنظرون إلى الموت ولا زلتم غافلين .
وهنا توجهت إلى أهلي وعيالي قائلاً :
أيها الأعزاء ! لا تغرنكم الدنيا كما غرتني ، لقد أجبرتموني على جمع الأموال التي لذاتها لكم وتبعاتها علي .