وصل المشيعون إلى المقبرة، وعند مشاهدتي لها استحوذ على فؤادي الغم، مروا على العديد من القبور حتى بانت حفرة من بعيد فهيمن علي الاضطراب والرعب .
بقيت مسافة حتى قبري فوضعوا جنازتي على الأرض، استرحت قليلاً، وبعد قليل رفعوا التابوت ثانية وساروا به قليلاً، ثم وضعوه على الأرض ثم رفعوه ساروا به وحطوا به على مقربة من القبر، ألقيت بنظرة داخل القبر فانتابني الرعب مرة أخرى.
رفعت مجموعة منهم جنازتي من التابوت وما أن أدخلوا رأسي في القبر تصورت من شدة الخوف والرهبة كأنني هويت من السماء إلى الأرض، وحينما كانوا يدخلون الجسد إلى اللحد ألقيت من خارج القبر بنظرة إلى جسدي وأخرى وجهتها إلى الناس.فاقترب أحدهم من جسدي منادياً باسمي، فدنوت منه واستمعت لكلامه فقد كان مشغولاً بالتلقين.
كنت أسمع كل ما يقول وأردد معه ، ما أروعه فقد كان يتلفظ بروية وطراوة ، وما إن مضت لحظات حتى بدأوا بوضع الصخور فوق اللحد ، فشعرت بالأذى والأسى لأنهم سجنوا جسدي تحت التراب .
تأملت مع نفسي من الأفضل أن أنسحب ولا أدخل القبر مع الجسد ، ولكن لشدة تعلقي بالجسد جئت إلى جانب الجنازة ، وفي طرفة عين بدأت الأيدي تهيل التراب على الجسد .
حل أوان الغربة
انتابني السرور لكثرة الذين جاؤوا لمواراة جثماني الثرى ، وشعرت بالمتعة لحضورهم وتلاوتهم للقرآن والصلوات على النبي وآله ، ثم أخذ الحاضرون بالانصراف شيئاً فشيئاً ولم يبقى منهم إلا نفر يقدرون بعدد الأصابع ، ولكن لم يمض من الوقت إلا القليل حتى تركوني وحيداً – وهذا مالم أصدقه – ربما لا تتصورون ما جرى علي في تلك اللحظات ، فلم أكن أتوقع منهم هذا الجفاء ، أولادي ، بناتي ، زوجتي وكذلك أصدقائي المقربين الذين لم أبخل عليهم بالمودة ، لكنهم سرعان ما انصرفوا وتركوني وحيداً! وددت لو أصرخ فيهم :
أين تذهبون ؟ ابقوا معي ، لا تتركوني وحيداً ... في تلك الأثناء سمعت منادياً ينادي في الناس : توالدوا للموت ، واجمعوا للفناء وابنوا للخراب ، ولكن للأسف فقد كانوا في وادٍ آخر محرومين من الاستماع لهذا النداء ، ولما عرفت أن الناس قد خرجوا من المقبرة ناديتهم : اذهبوا ، ولكن اعلموا بأنكم ستنزلون التراب يوماً صدقتم أم لم تصدقوا ، شئتم أم أبيتم ، اعلموا فو الله لا يؤخر الأجل .
بعدكل ذلك الصراخ والعويل رجعت إلى نفسي فوجدت أن كل ما بقي لي هو قبر مظلم موحش مهول يثير الغموم ، فاستحوذ علي الرهبة ، أخذت أفكر مع نفسي : وكأنهم قد قذفوا في فؤادي كل ما في أفئدة أهل الأرض من غموم وكل مافي الدنيا من قلق ، وإنه غم ورعب لو نزل على بدن الإنسان لأهلكه ، ونتيجة لذلك الضغط النفسي بكيت وسالت دموعي ساعات وساعات .
أخذت أتذكر أعمالي فأدركت قلة بضاعتي ، فتمنيت لو عدت مع الذين كانوا قد اجتمعوا على قبري ، كي أقضي عمري بالعبادة وإحياء الليل والأعمال الصالحة وأنفق ماكنت جمعته خلال السنوات الأخيرة من عمري على الفقراء ، ليتني ... ليتني .
جاء رومان
وأنا غارق في بحر أفكاري ارتفع صوت من يسار القبر : إنك تتمنى العودة عبثاً ، أغلقت صحيفة حياتك ! فرعبت ُ لذلك الصوت في تلك الظلمة وكأن أحداً قد دخل القبر ، فسألته بصوت مهزوز : من أنت ؟
فأجاب :
أنا رومان من ملائكة الله (تعالى) .
قلت : لعلك عرفت مايدور في ذهني !
قال : نعم .
قلت : أقسم لو تركتني أعود إلى ذلك العالم لن أعصي الله أبداً وأعمل على كسب رضاه . اليوم حيث انصرف عني كل من أعرفهم بل وحتى أفراد أسرتي وتركوني ، أدركت غدر الدنيا ، فاطمئن إذا رجعت إلى الدنيا لن أغفل لحظة واحدة عن طاعة خالقي وعبادته !
قال : إنها كلمة أنت قائلها ، لكن اعلم أن الواقع غير ما تتمناه فلا بد أن تمكث في البرزخ من الآن وحتى قيام الساعة .
بعد ذلك باشر بإحصاء أعمالي الصالحة والطالحة تلك الأعمال التي ارتكبتها طيلة حياتي وسجلها الكرام الكاتبين .
عجباً لها من صحيفة تضم حتى أصغر أعمالي صالحها وقبيحها ، وفي تلك اللحظات شاهدت أعمالي أمام عيني .
كنت أفكر بثقل أعمالي وخفتها فبادر( رومان ) إلى تعليق صحيفة أعمالي في رقبتي بحيث شعرت وكأن جبال الدنيا كلها علقت في عنقي .
ولما أردت أن أسأله عن السبب في ذلك ، قال : كل إنسان يطوق بأعماله .
قلت : وإلى متى يجب أن أتحمل ثقل هذا الطوق ؟
قال : لا تقلق ، بعد ذهابي سيأتي منكر ونكير للمساءلة ثم تزول هذه المشكلة عنك .
قال رومان ذلك وانصرف.
مساءلة القبر
لم يمض الكثير من الوقت على انصراف رومان تناهت إلى أسماعي أصوات غريبة عجيبة ، وأخذت الأصوات تقترب أكثر فأكثر ويزداد فيّ الرعب والرهبة ، حتى وقف أمام عيني شبحان ضخمان مذهلان وبلغ اضطرابي ذروته لمّا شاهدت في يد كل منهما عموداً ضخماً من حديد يعجز من في الدنيا عن تحريكه ، ثم فهمت أنهما نكير ومنكر .
فتقدم أحدهما مني فصاح صيحة لو سمعها أهل الدنيا لماتوا . وتصورت أن أمري قد انتهى . وبعد لحظات تكلما وباشرا بالسؤال : من ربك ؟ من نبيك؟ من إمامك ؟ فتلكأ لساني من شدة الخوف والرعب ، وتوقف عقلي ، وبالرغم من أن فهمي وعقلي ازداد عمّا هو في الدنيا مئات المرات لكنه قصُر هنا ... كنت أعلم بنزول أعمدتهم على رأسي إن لم أُجبهم ، ما عساني فاعل ؟ أطرقت برأسي وأخذت بالبكاء وتهيأت لنزول الضربة .
في تلك اللحظات حيث كنت أتصور أن كل شيء قد انتهى ، تعلق فؤادي برحمة الله (تعالى ) وشفاعة المعصومين (عليهم السلام).
فأخذت أردد : يا أفضل خلق الله وعباده ، لقد كنت طيلة عمري أطلب منكم أن تدركوني عندما أحل فيقبري ، وليس من كرمكم التخلي عني في هذا الحال !
هنا ارتفعت أصوات أولئك بالسؤال . ولم يمض إلا قليل من الوقت حتى استنار قبري ، وأصبح نكير ومنكر أكثر شفقة فسُرّ قلبي واطمأن روحي وانفتح لساني ، فأجبتهم بشجاعة وصوت عالِ: الله ربي ومحمد نبيّ ، وعلي وأولاده أئمتي ، القرآن كتابي ، الكعبة قبلتي .... إلخ ، ولقد وددت لو أعادوا السؤال كي أجيبهم بكل قوة .
وفي الوقت الذي بدا نكير ومنكر رضيا فتحا من تحت قدمي باباً إلى جهنم وقالا : لولا أنك قد أحسنت الجواب لكان مستقرك هناك . ثم أغلقوا ذلك الباب وفتحوا من أعلى رأسي باباً أطلّت على الجنة فبشروني بالسعادة ،ومع هبوب نسيم الجنة امتلأ قبري بالنور واتسع لحدي واسترحت قليلاً .
وهنا انتابتني حالة من السرور العارم والسعادة لخلاصي من ضيق القبر وظلمته .
الحضور عند الغربة
لم يستمر سروري لظفري في أول اختبار وسرعان ما زال ، وبزواله أدخل فيّ حالة من الشعور بالضيق والغربة فأخذت أفكر مع نفسي : لقدكان لي في الدنيا الكثير من الأصدقاء والمعارف والأقارب ، وكانت لي بهم علاقة طيبة وحميمة ، بيد أن يدي أصبحت صفراً منهم .
يا إلهي ! كيف أتحمل الغربة في هذه اللحظات العصيبة القاسية ؟! وهل سيستمر همُّ الغربة مسيطراً عليّ في هذا العالم ؟ أطرقت برأسي وأخذت أبكي دون اختيار مني ، وما هي إلا لحظات حتى تناهى إلى مشامّي عطر طيب للغاية ، وأخذ يزداد ويزداد
وفي الوقت الذي كان كتابي يثقل كاهلي رفعت رأسي بصعوبة فشاهدت رجلاً يقف أمامي فأدهشني وجوده ، لقد كان شاباً حسن الوجه طيب الأخلاق ، فمسح الدموع من عينيّ بيده وابتسم لي .
فبادرت بالسلام تعبيراً عن تأدبي أمامه وجلست على ركبتي أنظر مدهوشاً إلى عينيه وأردد : تبارك الله أحسن الخالقين . ثم سألته بصوت واضح :
من أنت حتى جئت تسليني وتصحبني في هذه اللحظات المليئة بالغربة والاضطراب؟
فأجاب مبتسماً :
لست غريباً ، وهذه الديار تعرفني حيث أكون قريناً ورفيقاً ومؤنساً في هذا الطريق الخطير .
قلت : إنه الفلاح ، ولكن من أنت ؟ لا شك أنك غريب على أهل ذلك العالم ، فلم أرَ مثلك جمالاً مدى حياتي .
فقال ولم تزل تلك الابتسامة مطبوعة على شفتيه: الحق معك أن لا تعرفني ! فلقد كنت في ذلك العالم قليلاً ما تهتم بي . فأنا ثمرة أعمالك الصالحة وها أنت تراني بهذه الهيئة . اسمي ( حسن ) وأنا الذي آخذك بيدك في هذا الطريق الخطير .
حضور الذنب
ثم أمرني – يعني ( حسن )- أن أسلمه كتابي بيدي اليمنى. فناولته إياه وقلت : لك جزيل شكري وتقديري لأنك أنقذتني من غربتي وسترافقني وتواسيني في رحلتي هذه .
قال : : سوف لن أدعك وحيداً ما استطعت ، إلا ....
تغير لون وجهي فسألته مرعوباً: وماذا ؟
قال: إلا أن يتغلب عليّ ذلك القادم فتبقى أنت وهو !
سألته : ومن ذاك ؟
قال : إن كل ما أعرفه هو إنك سلّمتني صحيفة أعمالك اليمنى أما صحيفة أعمالك التي في الشمال فهي ما زالت معلقة في عنقك ولا تدع شيئاً إلا أحصته . وهنالك شخص آخر اسمه ( الذنب ) سيستلمها منك ، فإذا ما تغلب عليّ ستكون رفيقه حينذاك ، وإلا فإنني سأرافقك على مدى هذا الطريق المحفوف بالمخاطر .
قلت: سأعطيه الصحيفة مباشرة حتى يذهب، قال ( حسن ): إنه نتيجة أعمالك القبيحة وخطاياك ويحب البقاء عندك.
كنا مسترسلين في الحديث وإذا بي أشعر برائحة كريهة للغاية زعجني . قد ملأت تلك الرائحة الأجواء وقطعت علينا حديثنا ، وبرز في قبري شبح قبيح وكريه .
ومن شدة هلعي التجأت بـ ( حسن ) وتعلقت به بقوة ، هنا أمسك - الذنب – بعنقي بيديه القذرتين الوسختين وأخذ يزمجر مقهقهاً : إنني سعيد ياصاحبي .... وواصل قهقهته بصوت عال ، فاستحوذ عليّ الرعب والخوف وعقد لساني عن الكلام واشتدت ضربات قلبي حتى فقدت الوعي ، ولما أفقت وجدت رأسي في أحضان ( حسن ) ولكنني بمجرد رؤيتي لوجه حسن الملطخ بالدماء هيمن على فؤادي الحزن حيث تصورت أن ذلك الشبح القذر – الذنب – قد انتصر عليه وقهره ، لكن ( حسن ) كان يعلم بما يدور في قلبي ، نظر إليّ وقال بهدوء : لا تحزن ، فبعد صراع وجدل شديد أعطيته كتابه وأبعدته عنك حتى حين .
ثم نهضت متكئاً على كتف ( حسن ) والدموع تترقرق في أحدا قي ،وقلت : إنني أود أن تبقى إلى جانبي إلى الأبد ، لقد أزعجني ذلك الشبح الكريه ،والغربة بالنسبة لي أفضل بكثير من المكوث إلى جانبه ، فإذا ما جاورني الذنب سأعيش الاضطراب .
قال ( حسن ): له الحق في أن يجاورك فهذا ما أردته أنت.
قلتله متعجباً: إنني لم أدعه أبداً.
قال : على أية حال ، أعمالك الطالحة وذنوبك هي التي جعلته يكون هكذا ولابد لك أن تراه مرة أخرى إلى جانبك .
فاعتراني الخجل لما قاله ( حسن ) واضطربت بشدة ، ثم سألته مرتعداً : متى وأين ؟
قال : ربما في الطريق الذي نسلكه .
قلت : أي طريق ، أي مسير؟
قال : في ضوء ما بشرك به منكر ونكير فإن مستقرك في بقعة تقع في وادي السلام . وعليك الاستعداد للرحيل إلى هناك .
قلت : وأين يقع وادي السلام ؟
قال : هو مكان يتمنى كل مؤمن أن يبلغه ، ولا بد لك من العبور من وادي برهوت كي تتطهر في الطريق من كل درن وخبث : وذلك من خلال المشقات والصعاب التي ستتجرعها حيث تذوب خطاياك ، فتبلغ مقصدك بسلام .
قلت : وما هو برهوت؟
قال : إنه مكان يستقر فيه الكافرون والظالمون وفيه يذوقون عذاب البرزخ.