الإمام المهدي (عج)

الإمام المهدي (عج)

   رويت أحاديث كثيرة من قبل الشيعة وأهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، اشير في بعضها الى عددهم فحسب، واضيف في بعضها الى ذلك أنهم - جميعا - من قريش، وفي بعض آخر ذكر أنهم بعدد نقباء بني اسرائيل، وجاء في بعضها ان تسعة منهم من أولاد الإمام الحسين (عليه السلام)، وأخيرا ذكرت أسماؤهم واحدا بعد الآخر في بعض الاحاديث المنقولة عن أهل السنة، والمتواترة من طرق الشيعة(1).

 

وقد رويت أحاديث كثيرة من طرق الشيعة حول إمامة كل واحد من الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، لا يسمح المجال لذكرها في هذا الموجز(2).

 

الحكومة الإلهية العالمية:
   أن الهدف الرئيس والأول من بعثة الأنبياء هو، إتمام الشروط التي يلزم توفرها لرشد البشر وتكاملهم الاختياري والحر والواعي الشعوري، والذي يتم تحقيقه من خلال إبلاغ الوحي الإلهي للناس، وجعله بمتناول أيديهم. وقد لوحظت أهداف اخرى وراء ذلك يمكن أن نعتبر منها: المساعدة على الرشد العقلي، والتربية الروحية والمعنوية للأفراد المؤهلين وذوي الاستعداد. وأخيرا، كان الأنبياء العظام عليهم السلام يحاولون تشكيل المجتمع المثالي القائم على أساس عبادة الله والقيم والتعاليم الإلهية، ونشر العدل والقسط في الأرض كلها، وقد خطا كل واحد منهم - بحسب وسعه - خطوة في هذا السبيل، وقد تمكن بعضهم من إقامة دولة إلهية في منطقة او مرحلة زمنية معينة، ولكن لم تتوفر لأي منهم الظروف والشروط المناسبة لإقامة الحكومة العالمية.

 

والملاحظة أن عدم توفر مثل هذه الظروف والشروط المناسبة لا يعني قصور تعاليم الانبياء ومناهجهم واساليبهم، أو النقص في إدارتهم وقيادتهم، وكذلك لا يعني عدم تحقق الهدف الإلهي من بعثتهم. إذ - وكما أشرنا الى ذلك - إن الهدف الإلهي هو: توفير الأجواء والظروف المناسبة لحركة البشر الاختيارية ومسيرتهم:
(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ "(3).

 

لا إلزام الناس وقهرهم على اعتناق الدين الحق، واتباع القادة الالهيين، وقد تحقق هذا الهدف.

 

ولكن الله تعالى وعد - في كتبه السماوية - بإقامة الحكومة الإلهية على الارض كلها، ويمكن اعتبار ذلك نوعا من الإنباء عن الغيب بالنسبة لتوفر الأجواء المناسبة لتقبل الدين الحق، على نطاق واسع من المجتمع البشري، وحيث تتم بيدي بعض الأفراد والجماعات المتفوقة والمتميزة - وبمعونة الامدادات الغيبية الإلهية - إزالة العقبات والحواجز عن طريق إقامة الحكومة العالمية، ونشر العدل والقسط في الشعوب المحرومة، التي ضاقت ذرعا بجور الظالمين، ويئست من كل المبادئ والأنظمة الحاكمة، ويمكن اعتبار ذلك هو الهدف النهائي لبعثة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله، ودينه العالمي والخالد، وذلك لأن الله قال في حقه:
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ "(4).

 

وبما أن الإمامة متممة للنبوة، ومحققة لحكمة ختم النبوة، فنتوصل - على ضوء ذلك - لهذه النتيجة، إن هذا الهدف سيتحقق بوساطة الإمام الأخير، وهذه الفكرة قد ذكرت في روايات متواترة حول المهدي (ارواحنا فداه) وورد التأكيد عليها كثيرا.

 

ونشير هنا - أولا - الى آيات من القرآن الكريم، تتضمن البشارة والوعد بإقامة هذه الدولة العالمية، وبعد ذلك نذكر نماذج من الروايات المرتبطة بهذا الموضوع.

 

الوعد الإلهي:
   يقول الله تعالى في القرآن الكريم: " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ "(5).
وقد نقل هذا المضمون في آية اخرى عن موسى عليه السلام(6)، ومما لا يقبل الشك والترديد أنه سيأتي اليوم الذي يتحقق فيه هذا الوعد الإلهي. وفي آية اخرى اشير لحكاية فرعون، الذي جر الناس للاستضعاف: " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ "(7).

 

وهذه الآية - وإن وردت في شأن بني اسرائيل واستيلائهم على زمام الامور بعد تخلصهم من قبضة الفراعنة - ولكن هذا التعبير (ونريد) يشير الى إرادة إلهية مستمرة، ولذلك طبقت في الكثير من الروايات على ظهور المهدي (عجل الله فرجه الشريف)(8).

 

وقد خاطب - في موضع آخر - المسلمين بقوله:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"(9).

 

وجاء في بعض الروايات، إن المصداق الكامل لهذا الوعد سيتحقق في زمان ظهور الإمام الغائب (عجل الله فرجه) بصورة كاملة(10). وهناك روايات اخرى طبقت بعض الايات على الامام الغائب عليه السلام(11)، نعرض عن ذكرها رعاية للاختصار والايجاز(12).

 

نماذج من الروايات:
   إن الروايات التي نقلها الشيعة وأهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله) حول الإمام المهدي (عجل الله فرجه) تفوق حد التواتر، بل إن الروايات التي نقلها أهل السنة - وحدهم - تبلغ حد التواتر، باعتراف جماعة من علمائهم(13) وقد اعتبر جماعة من علمائهم الاعتقاد بالإمام الغائب مما اتفقت عليه الفرق الاسلامية جميعا(14)، وألف بعضهم كتبا ومؤلفات حول الإمام المهدي(15) وعلامات ظهوره، نذكر هنا بعض الروايات التي نقلها أهل السنة:
- من الروايات العديدة التي رووها عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا)(16).
- عن ام سلمة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله )قال: (المهدي من عترتي ومن ولد فاطمة)(17).
- وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن عليا إمام امتي من بعدي، ومن ولده القائم المنتظر الذي اذا ظهر يملأ الارض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما)(18).

 

الغيبة ومغزاها:
   تعتبر الغيبة من خصائص الإمام الثاني عشر (عجل الله فرجه الشريف) والتي ورد التأكيد عليها في الروايات المروية عن أهل البيت (عليه السلام) منها:
ما رواه عبد العظيم الحسني عن الإمام محمد الجواد عليه السلام عن آبائه (عليهم السلام )عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (للقائم منا غيبة أمدها طويل، كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقس قلبه لطول غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة).
ثم قال:
(إن القائم منا اذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفى ولادته ويغيب شخصه)(19).

 

- وروي عن الإمام السجاد، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال:
وإن للقائم منا غيبتين، احداهما أطول من الاخرى، فلا يثبت على إمامته إلا من قوى يقينه وصحت معرفته)(20).
ومن أجل أن نتعرف على سر الغيبة ومغزاها لابد وأن نلقي نظرة على سيرة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وتاريخهم. فنحن نعلم أن أكثر الناس بايعوا بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر وبعده عمر وبعده عثمان، وقد حرت تمرد على عثمان في أواخر حكمه، نتيجة للكثير من الاختلالات التي نشأت من التمييز المنحرف، فقتلوه، ومن ثم بايعوا أمير المؤمنين عليا (عليه السلام).

 

وقد سكت الإمام الذي هو الخليفة المنصوب من قبل الله والرسول (صلى الله عليه وآله)، خلال فترة الخلفاء الثلاثة، رعاية لمصالح الامة الاسلامية الجديدة، ولم ينطق بشئ إلا ما يتم به الحجة. وفي الوقت نفسه، لم يتخلف - لحظة - عن تقديم الخدمات والجهود لما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، ولكن فترة خلافته استغرقت كلها في محاربة أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج، وأخيرا استشهد بيد احد الخوارج.

 

وقد توفي الإمام الحسن (عليه السلام) مسموما بأمر من معاوية، وبعد موت معاوية تربع على عرش الحكم الاموي ابنه يزيد، الذي لم يكترث حتى بمظاهر الاسلام، وكان من المتوقع أن يتعرض الإسلام للابادة والدمار نتيجة لهذه السيرة الهابطة، ولذلك لم يجد الإمام الحسين (عليه السلام) مناصا من النهوض وإعلان الثورة، وأنقذ (باستشهاده مظلوما - الاسلام من خطر الإبادة، حيث بعث في المسلمين الوعي واليقظة، بيد أنه لم تتوفر الظروف الاجتماعية لاقامة الدولة الاسلامية العادلة، ومن هنا قام سائر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بتثبيت الاصول العقائدية وترسيخ ونشر المعارف والاحكام الاسلامية، وتربية النفوس المؤهلة وتهذيبها، وحيثما تسمح الظروف كانوا يحرضون الناس - سرا - على محاربة الظالمين والجبابرة والطواغيت، ويزرعون فيهم الأمل بتحقق الدولة الإلهية العالمية، واخيرا استشهدوا - جميعا - واحدا بعد الآخر.

 

وعلى كل حال، تمكن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) خلال قرنين ونصف من عرض الحقائق الاسلامية وبيانها للناس، بالرغم من مواجهتهم الكثير من التحديات والمشاكل والمتاعب الشديدة، وقد بينوا بعضا منه للناس عامة وبعضها بينوها لخصوص شيعتهم وخواص أصحابهم، وبذلك انتشرت المعارف الاسلامية بمختلف أبعادها وجوانبها في الامة، وضمن - بذلك - بقاء الشريعة المحمدية، وقد تشكلت - خلال ذلك - هنا وهناك في البلاد الاسلامية بعض الجماعات التي اندفعت لمحاربة الحكام الجائرين، وامكنهم - ولو بصورة محدودة - منع الجابرة والطواغيت من التمادي في غيهم وجورهم وعبثهم.

 

ولكن الذي كان يثير فزع الحكام الظالمين وقلقهم أكثر هو، الوعد بظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، الذي كان يهدد وجودهم وكيانهم، ومن هنا فرض المعاصرون منهم للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) رقابة مشددة عليه، ليقتلوا أي طفل يولد له، وقد استشهد الإمام (عليه السلام) نفسه بيديهم، وهو في ريعان شبابه، ولكن شاءت الإرادة الإلهية أن يولد المهدي (عليه السلام)، وأن يدخر لخلاص البشرية ونجاتها، ولهذا السبب لم يوفق للقائه خلال حياة أبيه - وحتى الخامسة من عمره - إلا أفراد قليلون من خواص الشيعة، بيد أن الإمام (عليه السلام) ارتبط بالناس بعد وفاة أبيه، بوساطة نواب أربعة، كلفوا بمهمة النيابة الخاصة(21)، واحدا بعد الآخر، وبعد ذلك بدأت (الغيبة الكبرى)، التي ستستمر الى مدة غير معلومة، حتى اليوم الذي يتم فيه إعداد البشرية لتقبل الحكومة الإلهية العالمية، وحينئذ سيظهر الإمام (عليه السلام) بأمر من الله - تبارك وتعالى -.

 

إذن فالسر في غيبته هو، الحفاظ عليه من أيدي الجبابرة والجائرين. وقد اشير في بعض الروايات الى حكم اخرى، منها، امتحان الناس واختبار مدى استقامتهم وثباتهم بعد اتمام الحجة عليهم. والملاحظ أن الناس لم يحرموا - تماما - من عطاءات الإمام (عليه السلام) خلال الغيبة، وكما ورد في الروايات فإنه كالشمس خلف الغيوم، حيث يستفاد من نورها وشعاعها(22)، وقد وفق الكثير من الأفراد للقاء الإمام (عليه السلام) وإن ظهر بصورة رجل مجهول، واستفادوا منه الكثير في قضاء حوائجهم، ومعالجة مشاكلهم المادية والمعنوية، ويعتبر بقاؤه حيا عاملا كبيرا ومؤثرا في زرع الطمأنينة وشيوع الأمل بين الناس، ليحاولوا إصلاح أنفسهم وإعدادها لظهوره.

 

المصدر / دروس في العقيدة الأسلامية ج2 / الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر / ط 3 / ص 10 - 140.
2- راجع بحار الانوار، وغاية المرام، واثبات الهداة وسائر كتب الحديث.
3- النساء / 165.
4- التوبة / 33، والفتح / 28، والصف / 9، وراجع بحار الانوار / ج / 51 / ص 50 / ح 22، وص / 60 / ح 58 و 59.
5- الأنبياء / 105.
6- الاعراف / 128.
7- القصص / 5.
8- بحار الانوار / ج 51 / ص 54 / ح 35 وص 63 و 64.
9- النور / 55.
10- بحار الانوار / ج 51 / ص 58 / ح 5، وص 54 / ح 34 و 35.
11- أمثال هذه الآيات: ". ويكون الدين كله لله " و " ليظهره على الدين كله " و " بقية الله خير لكم ".
12- بحار الانوار / ج 51 / ص 44 - 64.
13- الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص 99، ونور الأبصار / للشبلنجي / ص 155، واسعاف الراغبين / ص 140، والفتوحات الاسلامية / ج 2 / ص 211.
14- شرح نهج البلاغة / لابن ابي الحديد / ج 2 / ص 535، وسبائك الذهب / للسويدي / ص 78، وغاية المأمول / ج 5 / ص 362.
15- امثال كتاب (البيان في أخبار صاحب الزمان) تأليف الحافظ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي الذي عاش في القرن السابع، وكتاب (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) / تأليف المتقي الهندي الذي عاش في القران العاشر.
16- صحيح الترمذي / ج 2 / ص 46، وصحيح أبي داود / ج 2 / ص 207، و مسند ابن حنبل / ج 1 / ص 378، وينابيع المودة / ص 186 و 285 و 440 و 488 و 490.
17- اسعاف الراغبين / ص 134، نقلا عن صحيح مسلم وابي داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي.
18- ينابيع المودة / ص 494.
19- منتخب الاثر / ص 255.
20- منتخب الاثر / ص 251.
21- وهم: عثمان بن سعيد، ومحمد بن عثمان بن سعيد، والحسين بن روح، وعلي بن محمد السمري.
22- بحار الأنوار / للمجلسي / ج 52 / ص 92.