خرجنا من القبر وكان ( حسن ) يتقدمني وأنا أتابعه على بعد مسافة قليلة ، ولم يدع لي الخوف والرهبة لحظة أعيش فيها بأمان ، وكلما تقدمنا يزداد المكان انفتاحاً وتصبح المناظر أكثر دهشة .
ثم طلبت من ( حسن ) أن لا يبتعد عني وأن يكون معي جنباً لجنب وقدماً لقدم وأن ينقل خطواته بهدوء .
فتوقف ( حسن ) وقال : لقد أودعوك عندي كي أؤنسك وأعينك حتى تصل وادي السلام بسلام ، لهذا فإني أسير أمامك قليلاً لتعرف الطريق جيداً .
وتوقف هنيئة ثم واصل كلامه قائلاً : بطبيعة الحال إذا ما استطاع الذنب من خديعتك أو أجبرك على مرافقته فإننا سنصل متأخرين لا محالة .
منذ ذلك الحين ازداد اضطرابي وأخذ يتصاعد عندي احتمال ظهور الذنب من جديد .
لقد قطعنا الطريق رغم ما اعترضنا خلاله من مشاكل حتى وصلنا جبلاً استطعنا بصعوبة بالغة الصعود إلى قمته ، وعلى مرأى منا يبدو وادي مترامي الأطراف وأجواؤه قد ملئت دخاناً ونيراناً .
نظر إليّ ( حسن ) وقال : هذا هو وادي برهوت وأنت ترى الآن مشهدا منه فقط .
فأمسكت بـ ( حسن ) وقلت : إنني أخاف هذا الوادي . لنسلك طريقاً أكثر أماناً منه .
توقف ( حسن ) وقال : هذا هو طريق عبورك . ولكن لن أتركك ما استطعت وسأقوم بإعانتك عند مواضع الخطر .
قللت كلمات ( حسن ) من اضطرابي وخوفي نوعاً ما ، ولكن لازلت أشعر بالقلق في داخلي .
خيم الصمت علينا للحظات ، توجهت بعدها لـ ( حسن ) وقلت له : ألا يوجد طريق أكثر أماناً من هذا الطريق ؟
أدار بوجهه نحوي وقال : من الأفضل أن تعلم أن الناس جميعاً سواء المؤمنون أو الكافرون لا بد لهم من العبور يوم القيامة على جسر يسمى ( الصراط ) يشرف على النار ، فمن استطاع العبور بسلام دخل الجنة وإلا فإن أدنى زلة ٍستؤدي إلى قعر جهنم ، وفي عالم البرزخ صورة من الجنة والنار فقط ولا يمكن مقارنته بيوم القيامة العظيم ، ووادي برهوت يشابه الصراط في يوم القيامة ولا بد من العبور عليه حتى بلوغ وادي السلام بسلام بكل جدارة ، ولكن الويل للمثقلين ومن أحاط بهم العذاب أو التيه على أقل تقدير .
فكرت قليلاً وقلت : لا حيلة أمامي .... علينا المسير على بركة الله . توجهنا نحو تلك الصحراء الشاسعة ، وكلما أمعنا في المسير تأخذ حرارة الجو بالتزايد ولما وصلنا سطح الأرض ضاق نفَسي فطلبت من ( حسن ) التوقف للاستراحة لكنه رفض وواصل الطريق وقال لي : أمامنا طريق طويل وخطير فلا تضيع الوقت ، فكلما أسرعنا في مسيرنا استطعنا الخلاص أسرع .
قلت : أنا لا أستطيع فقد أنهكتني شدة الحرارة ، وفي تلك الحال حيث العرق يتصبب من رأسي ووجهي ، سقطت على الأرض فسقاني ( حسن ) جرعة من الماء الذي كان معه ، وفي الوقت الذي كان لم يزل يئن من جروحه رفعني ووضعني على ظهره وواصل الطريق .
هنا أصابني الخجل والسرور في آن واحد لأنه لم يتركني لوحدي رغم ما به من جروح وأخذ يواسيني كصديق حميم .
ضربة واحدة
ونحن نسير في طريقنا لفت انتباهي صوت رهيب ، فنظرت نحو الجانب الأيسر من الصحراء ، فذعرت لما شاهدت مما دفعني إلى أن ألقي بنفسي من أعلى كتف ( حسن ) ودون اختيار مني احتميت به .
كان هناك شخصان عظيمي الجثة أسودين تتطاير من فمهما وأنفيهما النيران والدخان وشعرهما يخط الأرض يحمل كل منهما عموداً ضخماً من حديد .
اضطربت وقلت لـ ( حسن ) : من هؤلاء ؟! ربما يتوجهان نحونا !
تبسم ( حسن ) وقال : لا تخف ، فهؤلاء نكير ومنكر متوجهان نحو كافر جاء لتوه من الدنيا ليسألاه كما سألاك ، قلت : هؤلاء أكثر قبحاً . قال : إنهما مشغولان مع كافر الآن .
مضى قليل من الوقت فسمعت صوت سقوط شيء ما هز الأرض تحت أقدامي ، ولما سألت ( حسن ) عن السبب أجاب أنها ضربة نزلت على ذلك الكافر .
من الآن فصاعداً ستسمع الكثير من هذه الأصوات التي تهز الأرض .
وادي سحيق
اتخذ ( حسن ) طريقه من أعلى القمم وأحياناً بين أودية صغيرة وطويلة حتى وجدت نفسي على شفا وادٍ سحيق وعظيم .
سألت ( حسن ) : هل علينا العبور من هذا الوادي ؟
قال : نعم . وإن العبور يستغرق وقتاً طويلاً فعليك الإسراع .
نظرت إلى قعر الوادي مرعوباً ، لقد كان عميقاً بحيث لا يرى قعره عدت إلى ( حسن ) وقلت له : إنك صديقي ورفيقي فلماذا تؤذيني ؟! قال : وكيف ذاك ؟ قلت : وهل حقاً لا يوجد طريق آخر أكثر أمناً من هذا الوادي ؟!
مسح ( حسن ) على رأسي بيده وقال: طريق العبور في هذا الوادي كثيرة، لكن لكل معبره الذي لابد أن يجتازه.
قلت منزعجاً: وهل هذا استحقاقي أن أعبر من مكان بحيث تعذبني النيران والدخان من الأعلى، ومن الأسفل القمم والأودية السحيقة ؟ فتبسم ( حسن ) وقال: اعلم يا صديقي إن هذا العذاب ما هو إلا مردود أعمالك القبيحة في الدنيا وإذا لم تتحمل ذلك في هذا الطريق لن تصل إلى وادي السلام أبداً، فقد سجل عليك أدنى قبيح عملته في الدنيا وهذا جزاؤه .
ونظراً لما تعتريني من لهفة لوصول وادي السلام فقد أذعنت لمواصلة الطريق بهدوء وأخذت بالمسير خلف ( حسن ) داخل ذلك الوادي.
انهمكنا في المسير داخل الوادي و لم يلح بالأفق ما يدل على انتهائه ، وكنت أفكر في أن عمق الوادي دليل على عظمة ذنوبي .... هنا انتبهت إلى نفسي حين سماعي لصوت انهيار الأحجار من أعلى الوادي .
فالتحقت بـ ( حسن ) فوراً كي يعينني إذا واجهتني مشكلة. كنت مضطرباً مرعوباً تكاد عيوني تخرج من أحداقي، فشاهدت رجلاً يسقط مع أحجار صغيرة وكبيرة إلى قعر الوادي.
فأشار إلي ( حسن ) وقال: لا تنظر إلى الأسفل بل انظر إلى أعلى الوادي، نظرت إلى أعلى الوادي فشاهدت شبحاً ضخماً أسوداً يضحك بصوت عالٍ قف على أعلى الوادي.
قال ( حسن ): هذا الشبح هو ذنوب ذلك الرجل الذي سقط، ولقوتها فقد تغلبت على حسناته فألقتها في قعر الوادي. هنا وضع ( حسن ) يده على كتفي وقال: هذه عاقبة أتباع الهوى.
لما سمعت هذا الكلام استحوذ علي الخوف من ذنوبي وإمكانية غلبتها علي في أية لحظة .
بعد قطعنا لطريق طويل وصلنا أخيراً إلى نهاية الوادي ، شاهدت ذلك الرجل ملقى على الأرض وكان رفيقه – أي حسن – ضعيفاً وواهناً بحيث أنه كلما حاول حمله على كتفه لم يستطع .
طلبت من ( حسن ) أن يساعده فاعتذر قائلاً: إنني مكلف بمرافقتك.(( ولا تزر وازرة وزر أخرى )) فاطر 18
قلت : لكننا كنا في الدنيا يعين بعضنا البعض !
قال ( حسن ) : في هذا العالم كل يتحمل وزر أعماله ، ولست أشفع له إذا استحق الشفاعة ، وعليك الدعاء أن يكون من محبي أهل البيت ( ع ) عسى أن تناله شفاعتهم.
حركت رأسي متحسراً ودعوت أن يكون كذلك .
ربما استغرق قطعنا للطريق ساعات طوال من ساعات الدنيا حتى وصلنا طريقا ينتهي إلى الأعلى. هنا التفت ( حسن ) نحوي وقال: استعد للصعود إلى أعلى هذا الوادي الخطير.
ألقيت ببصري نحو الأعلى وكلما نظرت لم أستطع تخمين ما تبقى حتى نهاية الطريق. فأصابني الإحباط لأنني مضطر لقطع هذا الطريق الطويل، ولكن لا حيلة سوى ذلك من أجل الوصول إلى وادي السلام.
بعد تحمل المشقات والكثير من الصعاب وصلنا أخيراً إلى قمة الوادي . تمنيت أن لا تعترضنا مثل هذه المعوقات . وبعد قليل من الاستراحة واصلنا طريقنا باتجاه وادي السلام
عذاب ابن ملجم
بعد قليل من المسير شاهدت طائراً ضخماً يحلق على مقربة من الأرض ، فقال ( حسن ) : أتريد أن تشاهد منظراً مثيراً ؟
قلت: بالطبع.
قال : حسناً فانظر إلى ما يقوم به هذا الطائر .
حطّ الطائر قريباً من صخرة وألقى بقسم من بدن رجل خارج منقاره ثم طار وعاد بعد قليل ليلقي بقسم آخر من الجسد وهكذا كررها أربع مرات حتى ظهر هيكل رجل مزعج وقبيح للغاية .
حاولت أن أسأل ( حسن ) لكنه أشار عليّ بالسكوت وأتابع الحدث .
ثم ابتلع الطائر قسماً من جسد ذلك الرجل وطار وكرر ذلك أربعاً حتى لم يبقى أثر للرجل .
التفت إلى ( حسن ) وقلت له : حسناً الآن قل لي ما معنى هذا العمل ، ومن كان ذلك الرجل ؟
قال : إنه أشقى الأشقياء عبد الرحمن بن ملجم المرادي وسيبقى في هذا العذاب إلى يوم القيامة .
سألته : ومن أين جاء به هذا الطائر وأين ذهب به ؟
أجاب : مستقره في وادي العذاب .
سألته مدهوشاُ : وأين هو وادي العذاب ؟
قال : إنه جانب من وادي برهوت يتعذب فيه الكافرون والمنافقون وإني أتمنى أن لا يكون مرورنا منه . وبدوري تمنيت ذلك وأنا أشعر بالخوف يهيمن على وجودي .
هدية من الدنيا
بعد قطعنا لطريق طويل جداً وصلنا إلى وادٍ خطير ورهيب للغاية . فأصابتني رعدة خوفاً من أن يطل الذنب مرة أخرى من مكمنه ويداهمني . توقفت وأخذت أفكر بالمصاعب الكثيرة التي كنت ألاقيها في طريقي ، عاد ( حسن ) وقال : لِمَ توقفت ؟ هيا تحرك .
قلت : إني أخاف . قال : لا مفر لك ، لابد من السير .
تحركت نحو الأسفل مضطرباً ، وما أن سرت خطوات من شفير الوادي نحو الأسفل حتى أطلّ من الجانب الآخر للوادي مخلوق نوراني له جناح وفي طرفة عين جاء عند ( حسن ) وبعد أن استفسر عن أحوالي سلّمه رسالة ثم ودّعنا وعاد مسرعاً ، وبعد أن قرأ ( حسن ) الرسالة وضعها في صحيفة أعمالي والتفت إليّ وقال : أبشرك ، فسألته مندهشاً : ما الأمر ؟ قال : بعث أهل بيتك وأصدقاؤك بهدية إليك وجاء بها هذا الملك إليك وسيقلل من همك وغمك بمقدار .
قلت : وكيف ؟ قال ( حسن ) وهو يشير إلى ذلك الوادي الرهيب : سوف لن نعبر من هذا الوادي نتيجة لهذه الهدية التي هي عبارة عن تلاوة للقرآن الكريم وإقامة مجلس تذكر فيه مصيبة الحسين بن علي ( عليهما السلام ) والدموع التي أهيلت من أجله .
سررتُ لهذا الخبر ودعوت لهم جميعاً بالمغفرة . ثم عدنا أدراجنا من ذلك الطريق الذي قطعناه وسلكنا طريقاً أكثر يسراً .
أودية الارتداد
بعد قليل وصلنا معبراً ضيقاً على جانبيه أودية رهيبة ، وكأن ( حسن ) كان ينتظر سؤالاً مني فالتفت إليّ قائلاً : هذه الأودية الموحشة هي أودية الارتداد ويستغرق الوصول إلى قعرها سنوات متمادية من سنيّ الدنيا ، وفي قعرها أفران من النار هي صورة لنار جهنم ، وأولئك القابعون فيها سيبقون فيها لإلى يوم القيامة .
سيطرت عليّ الرهبة بحيث بركت في مكاني دون وعي مني . فرفعني ( حسن ) من مكاني وقال : ركّز نظرك عليّ ولا تنظر إلى قعر الوادي أبداً . وهكذا تجرأت على السير في هذا الطريق الموحش .
في غضون ذلك عمّت الوادي صرخة رهيبة فالتفت إلى الخلف فشاهدت رجلاً يسقط إلى قعر الوادي ، وفي وسط صرخاته وعويله الذي هزّ فؤادي ، سمعت صوت ذنوبه .
كان ( حسن ) يشاهد المنظر مثلي فقال : إنه تعيس ، فقد قطع الطريق إلى هنا بسلام ، لكنه سيمكث في قعر الوادي حتى قيام الساعة . فسألته متعجباً : ولماذا ؟
قال : إنه ارتد بعد سنتين من إيمانه . ثم أخذت أدقق كثيراً في طريقي وكنت أضع قدمي في موطئ قدم ( حسن ) خشية السقوط .
ورغم زلات قدمي أحياناً لكننا قطعنا ذلك الطريق الشاق الصعب بسلام ، ووضعنا أقدامنا في طريق ضيّق كثير المنعطفات تحيط به تلال عالية ومنخفضة ، وكان العبور منه محفوفاً بالقلق والاضطراب .