الجزء السادس - طرق فرعية

 الجزء السادس - طرق فرعية

وأخيراً انتهينا من تلك الظلمة الموحشة ودخلنا صحراء مترامية الأطراف وبعد أن سرنا فيها خطوات توقف ( حسن ) وقال : انظر ياصديقي ، إن السير في هذا الطريق محفوف من الآن فصاعداً بالمخاطر أكثر مما سبق ، ألقى نظرة سريعة على الطريق واستمر في حديثه : كل من ابتلى في الدنيا بنوع من الانحراف سينحرف هنا أيضاً ، ثم أشار بيده إلى الطريق الذي يقابلنا وقال : هذا هو الطريق المستقيم الذي ينتهي بوادي السلام ولكن لا بد من الانتباه فهنالك الكثير من الطرق الفرعية – فالطرق المتناثرة على اليمين والشمال مضلة وأما الجادة الوسطى فهي المستقيمة – فأخذت أردد : اللهم اهدنا الصراط المستقيم . ثم طلب مني أن أسير خلفه وسرنا في الطريق الذي أمامنا ، وكان جميع الذين عبروا الكهوف ساروا في هذا الطريق للوصول إلى وادي السلام وكان الناس يطوون هذا الطريق بما لديهم من حسنات صغيرة أو كبيرة وبسرعات مختلفة .
بعد أن سرنا مسافة وصلنا مفترق طريقين ودون أن يتوقف ( حسن ) أشار إلى الطريق الواقع على الشمال وقال : هذه جادة الحسد والطغيان من دخلها خرج من جادة الشرك التي تنتهي بوادي العذاب . وفي تلك الأثناء شاهدنا شخصاً قد وطأ بقدمه تلك الجادة ورحتُ أفكر بأمره فتألمت لأنه اختار هذا الطريق المنحرف بعد كل تلك المصاعب والطريق الذي قطعه . وكنت أتمنى أن يندم ويؤوب قبل وصوله إلى جادة الشرك . لم يزل ذلك المنظر يشغل بالي حتى واجهت مشهداً أخراً في طريقي حيث شاهدت رجلاً صغير البنية يسير إلى جانب الطريق خائفاً مرتعداً ، فالتفت إلي ( حسن ) وقال : طأ بقدمك رأس هذا وتقدم . توقفت وسألته متعجباً : ولماذا ؟ قال : المتكبرون في الدنيا تصغر أبدانهم هنا كي يركلهم الناس بأقدامهم . 
ولما تذكرت تكبر هؤلاء في الدنيا أخذتني العصبية فركلته بقدمي وألقيت به على الأرض وواصلت طريقي دون اكتراث بعويله وصراخه . وما أن ابتعدنا قليلاً حتى وصلنا مفترق ثلاثة طرق . فتوقف ( حسن ) ليدلني فقال : واصل طريقك المستقيم ولا تلتف يميناً أو شمالاً . لأن طريق اليمين طريق النمامين الذين يؤذون الناس بألسنتهم ، وأضاف : وفيه حيوانات لادغة تلدغ المارين من هناك . 
في غضون ذلك دخله شخص فخرجت بعض الأفاعي من الأرض وأنبتت أنيابها بجسده فتركته مطروحاً على الأرض يصرخ بصوت عالٍ .
ونظراً لرعب المنظر أدرت بوجهي شمالاً فدهشت لرؤية شخص ضخم البطن لا يستطيع السير وكثيراً ما يسقط على الأرض . ولفقدانه التوازن انحرف نحو طريق الشمال وأخذ يواصل طريقه زحفاً .
سألت ( حسن ) : أي طريق هذا الذي يسير فيه ؟ قال : هذا طريق آكلي الربا حيث يذوقون أشد العذاب .


الغلي 
سار بنا الطريق نحو قمة تل ، ومن الأعلى انتبهت إلى الجانب الثاني من التل فشاهدت مجموعة من المأمورين يقفون على الطريق وقد أوقفوا عدة أشخاص ، وإلى جانب المأمورين كانت تتصاعد ألسِنة من النيران ، ولشدة خوفي ورعبي دنوت من ( حسن ) ومنعته من المسير ، فمسح ( حسن ) بيده على رأسي وقال : لا تخف فلا شأن لهم بك فقد وقفوا يتصيدون أشخاصاً معينين . وفي تلك الحال ارتفع صوت عويل وصراخ ولما نظرت عرفت أن شخصاً كان واقفاً والنيران والدخان يتطاير من جبهته ولما أمعنت النظر شاهدت مسكوكة مغلية قد طُبعت على جبهته ، ثم أحمى المأمورون مسكوكة أخرى ووضعوها على ظهره فملأ صراخه وعويله أجواء الصحراء ، نظرت في وجه ( حسن ) متحيراً ، ونظر هو أيضاً في وجهي وقال : هذا جزاؤه – فهذه المسكوكات كان قد جمعها في الدنيا ، وكان يرد المحرومين والمستضعفين ولم يؤد حقوقهم – قال ( حسن ) ذلك وسار نحو الأسفل ولحقت به مرعوباً خائفاً .
ولما وصلنا عند هؤلاء المأمورين الغلاظ الشداد تضاعف خوفي ورهبتي لكن ما خفف من روعي وجعلني أهدأ هو أنهم فسحوا لنا الطريق للمرور فعبرنا من بينهم دون الشعور بالخطر .



قطعة من نار 

ابتعدنا عنهم خطوات فراودتني فكرة الالتفات إلى الخلف ولما نظرت دهشت لرؤيتي المأمورين وهم يمسكون بشخص من رجليه ويديه ويحاولون إدخال قطعة من نار بالقوة في فيه ، توقفت عن المسير ورجعت إلى الوراء فهالني المنظر ، فكانت صرخاته وعويله أليمة للغاية ، وفي الوقت الذي كان داخله يستعر فقد كان يقطع الطريق زحفاً ، وفجأة شعرت بيد (حسن ) على كتفي فنظرت إليه وسألته : ما الأمر؟
قال : إن الذين يأكلون أموال الناس بالباطل يتولى أمرهم مثل هؤلاء الملائكة المكلفين بإطعامهم قطع مستعرة من الحديد . 
بعد صمت قليل واصل ( حسن ) كلامه فقال : بطبيعة الحال فإن هؤلاء يوقعون عند معبر حق الناس .
وبعد استماعي لكلام ( حسن ) اطمأن قلبي قليلاً ولكن نظراً لتألمي من ذلك المنظر توجهت إليه وطلبت منه الابتعاد عن ذلك المكان .
ثم سرنا وسرنا حتى وصلنا شخصاً رافعاً يديه إلى الأمام وهو يتخطى خطوات قصيرة بحذر ، فقال ( حسن ) وهو يواصل مسيره مشيراً بإصبعه إلى ذلك الشخص : منذ أن خرج هذا المسكين من النفق أصيب بالعمى .
ثم سار في طريق فرعي يبعد عنا خطوات وقال ( حسن ) : هذا طريق أهل الدنيا وسرعان ما يدخله ، فسألته لماذا ؟
قال : ذلك واضح لأنه فضّل الدنيا وأهلها على الآخرة وعلى المؤمنين . وهذه الطائفة من الناس ممن يشترون الخسران المبين لأنفسهم ، وذلك هو شراء الدنيا بالآخرة . ولم ينته ( حسن ) من حديثه وإذا بهذا الشخص يطأ بقدمه طريق أهل الدنيا ، وبقيت أسير في طريقي وتارة أعود إلى الخلف لأنظر من ذلك الأعمى البائس .
كنا نطوي الطريق المستقيم على ما يرام ، وكنا أحياناً نسبق غيرنا فيما يسبقنا آخرون وقد صادفنا في الطريق طرقاً فرعية وأناساً عجيبين ، من بينهم أشخاصاً ذوي لسانين امتدت من أفواههم وتستعر فيها النيران ، فقال لي ( حسن ) إنهم المنافقون .
كما شاهدنا الذين ارتكبوا أعمالاً تخالف العفة وانغمسوا بالشهوات غير المشروعة وقد لجموا بلجام من نار . لكن الأكثر إزعاجاً هو الطريق الفرعي الذي تسير فيه النساء ، فهو طريق ينتهي إلى صحراء وتتعذب فيها نساء كثيرات ، فمنهن من علقن بشعورهن وذلك لأنهن كن يبدين شعورهن للأجانب ، ومنهن من يأكلن لحومهن ، وهن من كن يتزين أمام الأجانب ، ومنهن من كانت رؤوسهن رأس خنزير وأبدانهن بدن حمار لأنهن مارسن النميمة في الدنيا .
والذي أثار دهشتي خلال مشاهدتي لجميع تلك المناظر هو عجز ( حسن ) الخاص بهؤلاء بحيث أنه كان يتخلف عن صاحبه أحياناً مسافة مئات الأمتار فيعجز عن هدايته وإعانته .



المرصاد 

قطعنا مسافة طويلة حتى وصلنا نفقاً ، وقبل أن نصل أعلى ذلك النفق تناهت إلى مسامعنا أصوات من الجانب الآخر للقمة أردت أن أسأل ( حسن ) عنها لكنني فضلت الإطلاع عنها شخصياً عند الوصول إلى القمة . 
لما وصل ( حسن ) إلى أعلى القمة توقف ، وبدوري التحقت به مسرعاً أسحب أنفاسي بقوة ، فذهلت لما رأيت واستحوذ علي الخوف والاضطراب .
فقد كانت الطريق والأودية المحيطة بتلك القمة مليئة بالملائكة والذين وقعوا في قبضتهم ، فهم سيطروا على كل من كان يحاول المرور من هذا الطريق ، فسألت ( حسن ) : ما الخبر هنا ؟
كان ( حسن ) ينظر يميناً وشمالاً ، فقال : هذا هو المرصاد ، قلت له مندهشاً : وما المرصاد ؟
قال : مكان التحقيق حول حقوق الناس ، توقف ( حسن ) هنيئة ثم واصل كلامه : لو كان في عنقك أدنى حق للناس بدء من القتل وانتهاءً بالصفعة أو أي دين آخر ، كل ذلك يصبح سبباً في بؤسك .
مرة أخرى استطلعت الوادي فكانت مجموعة محملين بالهموم والأحزان وقد افترشوا الأرض ولم يكونوا قادرين على التحرك لثقل السلاسل المطوقة بها أعناقهم ، وآخرون مصفدون بالحديد يتولاهم ملائكة غلاظ عظيمو الجثة ، فيما تاه آخرون في الوادي لا يؤذن لهم بالمرور من الطريق .
كلما ارتفع صوت المأمورين في الأجواء بالإذن لأحد ما بالعبور وكان قد أوقف لمدة طويلة فإنه يواصل طريقه بكل سرور .
ثم التفت ( حسن ) إليّ وقال : هيا بنا نذهب .
قلت مضطرباً : لا يمكننا المضي من هذا المضيق .
فقال : إن الملائكة يسيطرون على كافة الطرق فلا يمكن التغاضي عن حقوق الناس وإن الله ( تعالى ) لا يغض الطرف عن الظلم ، ربما يتنازل الباري عن حقه ويقبل شفاعة الصالحين ، لكنه لا يعفو عن حقوق الناس أبداً .
سألت ( حسن ) كيف يتم معرفة الأشخاص هنا ؟
قال : من كانت بذمتهم حقوق للناس يتم التعرف عليهم ومنعهم من العبور قبل الملائكة ، وقفت متسائلاً : وإلى متى عليهم البقاء هنا ؟
قال : تختلف مدة بقائهم وتوقفهم ، فالبعض يبقون أشهراً ، وآخرون سنوات ، ثم سألته : وكم يطول التحقيق في حقوق الناس ؟
قال : عدل الله ( تعالى ) هو الحاكم هنا ، والتحقيق يجري لصالح المظلوم إلا أن يعفو المظلوم عن حقه . وإلا سيؤخذ من حسنات الظالم وتضاعف إلى ميزان المظلوم حتى يرضى ، وإذا لم تكن حسنات الظالم كافية أخذ من سيئات المظلوم وأضيفت إلى سيئات الظالم ، وفي الحقيقة فإن هذا يعتبر قصاصاً من الظالم .
دخل الرعب والخوف الشديد فؤادي لما سمعته من ( حسن ) . ولما وجدت أنه لا مفر من المرور من بين هؤلاء المأمورين قلت لـ ( حسن ) : لا حيلة لنا ... لنذهب !
طوينا منعطفات النفق ودخلنا المرصاد وما مضى إلا لحظات حتى وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام المأمورين وبإشارة من أحدهم وضعوا سلسلة ضخمة في عنقي ودون أن يمنحوني فرصة لمعرفة السبب أخذوا يسحبونني حتى أخرجوني عن الطريق .
عبثاً أخذت أحرك رجليّ ويديّ علّني أفلح في الهروب منهم ، غير أن محاولاتي باءت بالفشل أمام سطوتهم ، وطلبت من ( حسن ) أن يستفسر عن سبب فعلتهم هذه لكنه اقترب مني وقال : عليك أن تعرف أن هؤلاء لا يعذبون أحداً دون علة . تأملت قليلاً فعرفت القصة ، فلقد اقترضت مبلغاً من المال من جارنا ولم استطع تسديده له وذلك لسفره ثم مرضه ، فصارحت ( حسن ) بذلك وطلبت منه البحث عن طريق للنجاة . وقد نظر ( حسن ) إليّ وقال : لو استطعت أن تزور ذويك في عالم الرؤيا وتطلب منهم أداء ما بذمتك من دين ففي ذلك أمل في خلاصك وإلا فإنك ستمتحن هكذا .
وبمساعدة من ( حسن ) استطعت أن أزور ولدي الكبير في عالم الرؤيا وأحدثه عن حالي .
بقيت أنتظر ما يرد به أهلي وإذا بي أرى شخصاً يحمل فوق ظهره أغلالاً من نار ويهرول بهذا الاتجاه وذاك ويصرخ : الويل لي ، فهذه الأموال التي اقترفتها بالخطايا هي التي أوقعتني هكذا في البلاء ، في حين أنفقها الورثة في سبيل الله (تعالى) فنالوا السعادة وعلى جانب آخر شاهدت حشداً كثيراً قد هجموا على شخص يطالبونه بحقوقهم .
وعند رؤيتي لهذه المشاهد الرهيبة والحال التي أنا فيها غرقت في تفكير عميق وأخذت أحدث نفسي : لو كنت أعلم أن حقوق الناس من الأهمية وغير قابلة للعفو إلى هذا الحد لبذلت المزيد من التأني في تعاملي مع الناس سواء أثناء المعاملات أو إبداء وجهة النظر أو الإدلاء بالشهادة أو حتى أثناء الحديث معهم ، وهنا أخذت بالصراخ دون وعي : الويل من هذا المعبر إنه حقاً معبر الهلاك والشقاء .
في تلك الأثناء فتح المأمورون الأغلال عن عنقي وابتعدوا عني . تصورت في الوهلة الأولى أنهم تركوني بسبب صراخي ، ولكن عندما ضمني ( حسن ) إليه مسروراً قال لي : لقد قضي دينك وإنك الآن حر في العبور من المرصاد ، وارتفع صوت المأمور بإطلاق سراحي . واصلنا طريقنا المستقيم للوصول إلى وادي السلام ....