كان ( حسن ) يواصل طريقه وأنا أتبعه بكل لهفة ولكن بقلب مضطرب . وصلنا مفترق طريقين فتوجه ( حسن ) نحو اليمين ، غير أن يداً سوداء ضخمة كمّت فمي وعينيّ ونتيجة للرائحة الكريهة التي كانت تنبعث منها عرفت أن ذلك هو الذنب .
حاولت إزاحة تلك اليد السوداء المغطاة بالشعر وحينما أفلحت واجهني شبح ذلك الذنب القبيح .
أصابني الذعر فحاولت الفرار واللحاق بـ ( حسن ) غير أن الذنب سحب يديّ بقوة وقال: نسيت عهدك ؟
فأجبته مذعوراً : أي عهدٍ هذا ؟
قال : لقد كنت في الدنيا تصحبني ، وعاهدتني أن نكون معاً في هذا العالم أيضاً .
قلت: إنني لا أعرفك أبداً، قال: إنك تعرفني جيداً لكنك لم تر صورتي، الآن وقد تفتحت رؤيتك أخذت تشاهدني . قلت : حسناً ، ماذا تريد مني الآن ؟ قال : إنني ألاحقكم منذ بداية الرحلة وحتى الآن ، وقد حاولت اللحاق بك في وادي الارتداد فلم أفلح .
قلت وماذا كنت تريد مني هناك ؟
قال : أردت المرور بك من ذلك الوادي .
فصرخت منزعجاً : يعني إنك كنت تريد تكبيلي حتى قيام الساعة !
قال : كلا ! لقد كنت أريد إيصالك إلى مرامك بأسرع وقت ، ولكن لا بأس ، فإنني أعرف طريقاً سهلاً لا يعرف به أي شخص آخر .
قلت : وحتى ( حسن ) ؟
قال : كن على ثقة لو كان على علم به لما أخذ بيدك عبر هذا الطريق الصعب ، وهنا تذكرت ( حسن ) حيث تقدمني متصوراً إنني أسير خلفه .
ضاق صدري وطلبت من ( الذنب ) أن يتركني، لكنه في هذه المرة هددني واحمرت عيناه فأصبحتا كبؤرتي دم وقال: إما أن تأتي معي أو أعيدك إلى حيث جئت.
لما سمعت هذا الكلام ارتعد بدني واضطررت لمرافقته شريطة أن أتقدمه وهو يدلني من خلفي لأن مجرد رؤيته كانت تمثل عذاباً بالنسبة لي.
وهكذا تقدمت في الطريق المتجه يساراً وبعد فترة من المسير وصلنا كهفاً كبيراً، دون أن التفت إليه سألت الذنب: ما العمل ؟
قال: إنك ترى أنه لا طريق آخر أمامنا ولا بد من المرور من داخل الكهف.
دخلت الكهف لكن ظلمته التي تفوق التصور أرعبتني فسمعت صوت الذنب وهو يصرخ: لماذا توقفت ؟ الطريق ممهد ويخلو من الأخطار. واصل طريقك براحة بال .
تقدمت خطوات ثم توقفت ونظرت إلى ما حولي فلم يعد باب الكهف يرى.
كان الظلام يخيّم على كل شيء، رعب عجيب على كياني، فناديت الذنب لكنني لم أسمع جواباً، ثم ناديت مرعوباً، لكنني لم أسمع سوى صدى صوتي. لم تنفك عني الرهبة والاضطراب، فأدرت رأسي لأرى ما يحيط بي لعلي أعثر على منفذ للهروب، لكنني لا أعرف أين بداية الكهف ولا نهايته.
جلست متحيراً نادماً غمر قلبي الحزن والألم وبكيت لفراق صديقي الحميم الوفي ( حسن ) وإذا بي في تلك الأثناء أسمع صوت شخص يمر قد نبهني ، ففتحت مسامعي عسى أن أعرف جهة الصوت ، فانشرح فؤادي لعطر ( حسن ) الأخاذ ، فترقرقت في عيوني دموع الشوق .
فتحت أذرعي وضممته إليّ مسروراً ورويت له ماجرى لئلا ينزعج مني . فقال ( حسن ) : لما شعرت بعدم وجودك على أثري رجعت من نقس الطريق وعرفت بالأمر من خلال الرائحة الكريهة التي كانت تنبعث من الطريق المتجه نحو اليسار فسرت في نفس الاتجاه لكنني لم أعثر عليك رغم بحثي عنك ، حتى وصلت قرب الغار فشاهدت الذنب ولما رآني ولّى هارباً . حينها عرفت أنه قد خدعك ، وعندما دخلت الكهف سمعت عن بعدٍ صوت بكاء ونحيب فسررت وهرعت نحوك .
التوبة
وبعد صمت واصل ( حسن ): لقد كان هذا الطريق مقدر لك سلفاً لكن جرى استثناؤه وذلك لتوبتك، رغم محاولات الذنب في إعادتك إلى ذلك الطريق. قلت : كانت توبتي من الذنوب الكثيرة التي أرتكبها صغيرها وكبيرها . قال : إنه طريق رهيب للغاية كان عليك قطعه لولا توبتك وهو بالإضافة إلى طوله ومنعطفاته ومعابره الضيقة والمظلمة ، فإنك لا تأمن مافيه من حيوانات وحشية ، ثم أخذ ( حسن ) بيدي وقال : هيا بنا نعود إلى طريقنا السابق .
قطعنا ما تبقى من الطريق حتى وصلنا مكانا فسيحا يشبه المستنقع ولما وضعت قدمي فيه بركت فيه حتى الركبة . وكان ( حسن ) يسير بسهولة، فلما رآني تراجع إلى الخلف وطلب مني أن أمسك بيدي على رقبتي ليعينني . غطست في المستنقع حتى فمي ولم تعد لديّ إمكانية الصراخ وطلب المعونة، وإذا بذلك الملك يطلّ علينا وناول ( حسن ) حبلا وقال له: هذا الحبل كان هو قد أرسله سلفاً فأعنه كي يتخلص. ذهب الملك وألقى ( حسن ) بالحبل إلي فاستطعت الإمساك بالحبل والتخلص من تلك الهلكة ، ولما تجاوزنا المستنقع سألت ( حسن ) : ما هو مراد الملك من القول : هذا الحبل كان هو قد أرسله ؟
قال ( حسن ) : لو أنك تتذكر ، قبل عشر سنوات من موتك قمت بتشييد مدرسة يتعلم فيها الأطفال الآن ، فخيراتها هي التي أدّت إلى خلاصك من هذه المحنة وحضرت عندك لتنقذك .
أيدت ما قاله ( حسن ) ثم قلت متبختراً : قبل خمس سنوات قمت بتشييد مسجد ، فأين أصبحت خيراته ؟ ابتسم ( حسن ) وقال : بما أن بناء المسجد كان رياءً ومن أجل الشهرة وليس في سبيل الله فإنك قد تلقيت الأجر من الناس . قلت : وأي أجر ؟
قال: المدح والثناء من قبل الناس ، تذكر ما كان يدور في قلبك حينما كان يمدحك الناس ، لقد كنت تقدم رضاهم على رضى ربك ، واعلم أن الله إنما يتقبل الأعمال التي تؤدى لأجله وحسب .
استحوذت عليّ حالة من الحسرة والندامة من ناحية ، ومن ناحية أخرى شعرت بالخجل وأخذت بتوبيخ نفسي : أرأيت كيف ضيعت أعمالك بالرياء وحب الذات في حين كان باستطاعتها إغاثتك في مثل هذا اليوم؟
موكب الشهداء
(طوبى لأولئك الذين مضوا شهداء فلا تفكروا بمنزلتهم فإن أفكاركم قاصرة عن بلوغ ذلك، بل فكروا بطريقهم وهدفهم ) من خطاب للإمام الخميني قدس سره الشريف
واصلنا سيرنا في وسط صحراء مترامية الأطراف، ولم تخف حرارة الجو أبداً واستولى عليّ الإرهاق ولم يبق فيّ قدرة على مواصلة الطريق.
في تلك الأثناء سمعت أصواتاً فأدرت برأسي نحو يمين الصحراء ، فشاهدت منظراً مثيراً ،إذ رأيت مجموعة من الناس قد اخترقت الصحراء ومضت بسرعة فائقة ولم يخلّفوا وراءهم سوى الغبار ، فتوقفت متعجباً وأخذت أنظر إلى الغبار المتطاير ، ثم حركني ( حسن ) فانتبهت على نفسي ، وأردت أن أسأله فسبقني ( حسن ) وقال : هل شاهدت المنظر ، قلت : ومن هؤلاء ؟
قال : هؤلاء زمرة من الشهداء .
قلت مذهولاً: الشهداء.
قال: نعم الشهداء .
قلت : وأين يريدون ؟
قال : وادي السلام .
فأدرت برأسي نحو ( حسن ) متعجباً وقلت: وادي السلام !
قال: نعم، وادي السلام.
قلت : لقد ذللنا هذه المسافة الطويلة بما فيها من مشقات ومحن كي نسعد يوماً بالوصول لوادي السلام ، وها أنت تقول أن هؤلاء يتوجهون نحو وادي السلام بهذه السرعة ، فهل هنالك فارق بيننا وبينهم ؟
فطبعت ابتسامة على شفتي ( حسن ) وقال :
بين قمري وجرم القمر **** فرقٌ بين السماء والأرض
ثم واصل كلامه : لقد عبدت الله في الدنيا على عجل فعليك الآن أن تقطع الطريق بمشقة وصعوبة ، أين أنت من الشهداء فالشهيد ذنوبه بمجرد أن تسقط أول قطرة من دمه على الأرض وتذلل له الطريق .
وفي يوم القيامة أيضاً أول من يدخل الجنة الشهداء ، فإنهم قطعوا طريق مائة عام في ليلة واحدة ، وهاهم اليوم يقطعون وادي برهوت في طرفة عين .
فغبطت الشهداء على منزلتهم وأخذت أردد : طوبى لهم وحسن مآب
نيران الحسرة
لشدة ما انتابني من حسرة وغم جلست وأخذت أحدث نفسي : أية درجة ومنزلة هذه ؟ منذ مدة وأنا أدور في هذه الصحراء وواجهت الكثير من العوائق والمصاعب ولا زلت لم أصل بعد إلى نتيجة .
لكن هؤلاء بلغوا مقصدهم بهذه السرعة ، فحقاً طوبى لأولئك الذين مضوا شهداء .
سالت الدموع على وجنتي وبلغت روحي حنجرتي .
بكيت وبكيت بصوت عالٍ حتى أخرجت ما في فؤادي من عقد الدنيا ... لكن الحسرة والغبطة لموكب الشهداء بقيت في قلبي ، وهل يمحوها البكاء ؟
جاءني ( حسن ) بهدوء وأخذ يهدئ من روعي ويشجعني على مواصلة الطريق الذي كان طويلاً مضنياً.
غبار الشهوات
رغم قطعنا لمسافة طويلة من الطريق لكن لم تلح في الأفق نهاية للصحراء .
وعلى بعد رأيت عموداً أسوداً ما بين عمق الأرض والسماء يتصل بنيران السماء ودخانها وهو يتحرك ، ولما اقترب ظهر أنه يشبه الغبار يدور حول نفسه ، ولما رأيته التصقت بـ ( حسن ) ولفني الرعب والهلع فسألته : ماهذا العمود ؟
قال : إنه غبار الشهوات يدور حول نفسه بسرعة مذهلة .
قلت له مضطرباً : وما العمل في هذه الحالة ؟ فالغبار يتجه نحونا بسرعة لا توصف وهو يلف كل ما يحيط به .
قال ( حسن ) : أحط بيدك حول ظهري ، وانتبه لئلا يفصلك الغبار عني .
أخذ الغبار يقترب منا شيئا فشيئا بصوته المرعب ، وأخذ اضطرابي يزداد ويزداد حتى أصبح الجو مظلماً خلال طرفة عين .
لقد أحاط بنا الغبار وحاول لفنا إليه غير أن (حسن ) قد التصق بالأرض كالطود ، وقد استطعت السيطرة على نفسي بصعوبة بالغة في حين قبضت بيدي على ظهر ( حسن ) .
كنت بين الحين والآخر أسمع صوت ( حسن ) وسط ضجيج الغبار وهو ينادي : انتبه لا يفرقك الغبار عني !
كانت لحظات غاية في الصعوبة وكنت أخشى أن يفرقني الغبار عن ( حسن ) لقد وهنت يداي وتثاقلت أذناي فلم أعد أسمع صوت ( حسن ).
وفجأة فلتت يدي عن ( حسن ) ، وبطرفة عين ابتعدت عن ( حسن ) عدة كيلو مترات وألقي بي نحو الأعلى .
كان الغبار يدور ولشدة الضجيج وارتفاع درجات الحرارة فقدت والوعي ، ولما فتحت عيني شاهدت الشبح الأسود الموحش للذنب واقفاً فوق رأسي وكانت رائحته الكريهة تؤذيني فنهضت بسرعة وحينما حاولت الهرب قبض على يدي بقوة وجذبني نحوه وقال : إلى أين أيها الصديق عديم الوفاء ؟ أتفضل مرافقة ( حسن ) على مرافقتي ؟ في حين إنك اخترتني رفيقاً في الدنيا .
نظرت إلى وجه الذنب نظرة سريعة فلمست أن هيكله قد صغر قليلا .
ودون أ ن أنتبه إلى كلامه سألته : ما الخبر ، فقد أصبحت ضعيفاً ونحيفاً ؟
قال منزعجا : كل ما أتجرعه هو بسبب ( حسن ) .
فسألته متعجباً :بسبب ( حسن ) ؟
قال : نعم ، فلقد فرقك عني ليؤذيك قليلاً من خلال مرورك من طرق معقدة وصعبة .
قلت : حسنا ، وما علاقة أذيتي بضعفك ؟ فأجاب منزعجاً : كلما يزداد عذابك يصيبني الضعف أكثر فأكثر وتذوب لحوم بدني وإذا ما وصلت إلى وادي السلام لن يبقى لي أثر ، ثم عظّ على نواجده وقال : الآن الدور لي فلا بد أن ترافقني .
إلى النار
وأنا أرتعش من شدة الخوف والرهبة ، سألته : إلى أين ؟ فأشار الذنب إلى جبل إلى يساره وقال : خلف هذا الجبل هنالك وادي جميل أود أن تبقى فيه إلى يوم القيامة .
كنت أعلم أن لا جدوى من العناد واللف والدوران ، فسرت في الطريق الذي أشار إليه ، فتقدم هو مسروراً عجولاً وبين الحين والآخر يلتفت ويشجعني على مواصلة الطريق .
وبالرغم من أنني لم أر خيراً من الذنب لكن بشاراته المتكررة وسروره غير المبرر حفزني على الاستمرار في المسير
أخذت أفكر مع نفسي عسى أن ألتقي بـ ( حسن ) خلف الجبل ، ولعل وادي السلام يقع خلف الجبل وأن الغبار قد أدناني منه ، ولكن هل يمكن الوصول إلى وادي السلام بدون ( حسن )؟
قطعنا منتصف الجبل فتناهت إلى مسامعي أصوات نحيب ، فواصلت الطريق دون أن أكترث لها ، وكلما اقتربنا من قمة الجبل يزداد صوت النحيب حتى استحوذ علي الخوف والرعب فتوقفت وقلت للذنب : ماهذه الأصوات التي أسمعها ، فأجاب الذنب مضطربا : أية أصوات ؟
قلت : هذه الأصوات والصرخات التي تصدر من خلف هذا الجبل فتقطع فؤادي .
قال الذنب : إنني لا أسمع صوتاً لعلها هلاهل وأفراح أهالي تلك المنطقة المنعمين
فقلت له : إنني أسمع أصواتاً وصرخات أشبه ما تكون بالصياح والعويل
فقال الذنب : قلت لك إنني لا أسمع صوتاً فلا تضيع الوقت بلا داعي ، واصل الطريق بسرعة فالوقت ضيق والطريق طويل.
هنا فهمت أن الذنب يخفي شيئاً هو يتظاهر بعدم السماع ، ولم يكن هنالك من خلاص فلقد أبعدني الغبار عن ( حسن ) وأصبحت الآن أسيراً بيد الذنب ، ياليتني لم أترك ( حسن ) ، بيد أن الغبار كان من القوة بحيث أبعدني عنه .
كنت أسير خلف الذنب بين طيات الجبل يعتريني الشك والتردد وإذا بي أسمع صوت ( حسن ) وهو يصيح بي : قف جانباً ، ففعلت وإذا بصخرة كبيرة تسقط بقوة على رأس الذنب ألقت به في قعر الوادي .
عندما شاهدت ( حسن ) مقبلاً علي من أعلى الجبل واحتضنني ، سررت لرؤية ذلك الوجه الجميل والعطر الفواح ووضعت رأسي على كتفه وأخذت بالبكاء .
قال لي ( حسن ) وهو يمسح دموعي والبسمة ترتسم على شفتيه : ماذا تفعل هنا يا صديقي ؟ أتدري أين أنت الآن ؟
قلت : كلا ، فهز ( حسن ) رأسه وقال : إنك على شفا وادي العذاب ، لقد سمعت باسم هذا الوادي سابقاً من ( حسن ) لكنني لم أصدق أبداً إنني سأقترب من هذا الوادي الخطير ، طلبت من ( حسن ) أن يحدثني عن هذا الوادي فاستجاب لي وقال : إنه مستقر الذين يعجزون عن العبور من برهوت ولن تكون لهم القدرة على العبور من الصراط يوم القيامة وبالتالي فإنهم سيسقطون في قعر جهنم ، وهنا تلفحهم لفحة من نيران جهنم ، أما في القيامة فإنهم سيستقرون فيها .
لقد أرعبني وادي العذاب ووقوفي على شفيره ، وبعد أن هون ( حسن ) من روعي دعاني للاستراحة قليلاً لرفع التعب .