الجزء الخامس - عذاب مجرم في البرزخ

الجزء الخامس -  عذاب مجرم في البرزخ

في تلك الأثناء ووسط صراخ المعذبيين سمعت صراخاً يقترب منا وبعد لحظات أصبح الصوت أكثر وضوحاً وإن صاحبه يئن أنيناً يقطع الفؤاد وهو يشتكي العطش فأصابني الهلع وتوجهت نحو ( حسن ) لأسأله : ماهذا الصوت ؟
نظر ( حسن ) إلي بوجهه الرؤوف وقال : انظر إلى أعلى الجبل واحتفظ بهدوئك ، ولما نظرت إلى قمة الجبل شاهدت رجلاً كبّلت عنقه بالسلاسل وأخذ بأطراف السلسلة رجلان قبيحا الخلقة ضخما البنية ، وكان ذلك الرجل يئن من العطش ويتلفت هنا وهناك .
عندما شاهدنا أسرع نحونا ومن شدة خوفي احتميت بـ ( حسن ) وسألته بهمس من هذا ؟
قال ( حسن ) : إنه من كبار القابعين في برهوت وهو الآن يذوق العذاب في وادي العذاب . هكذا أخذ يقترب منا ومد يده كالمتسول طالباً الماء ، ولما وصل على بعد خطوات من ( حسن ) سحب المكلفون به ومنعوه من التقرب . كان يبكي ويهمل الدموع وتقدم من ( حسن ) طالباً جرعة ماء ، لكن ( حسن ) امتنع ، غير أنه واصل توسله ، فسأله ( حسن ) : أو ليس لك رفيق اسمه حسن ؟
فأطرق برأسه وقال : أي صديق وأي حسن ؟ إن ذنبي هو رفيقي أودعني منذ البداية بيد ملائكة العذاب وانصرف ، وعلي الآن البقاء حتى يوم القيامة أعاني من العطش وأبقى مقيداً بالأغلال والسلاسل .
فقال له ( حسن ) مستهزئاً : إذن فادع ربك ليعجل بيوم القيامة ، كي تتخلص من هذا العذاب ، فنهض من مكانه وأخذ يصرخ : كلا ... كلا فإننا في وادي العذاب لا نريد أن تقوم القيامة ، فقد أرهقنا ما في البرزخ من عذاب قليل فكيف الحال مع عذاب جهنم .... ثم أغمي عليه ، فانهال عليه ملائكة العذاب ضرباً بأعمدة الحديد المشتعلة ، وفجأة قفز من مكانه وأخذ يرغو كرغو البعير واشتعل جسده ناراً ثم بدأ يفحص بأقدامه وألسنة النيران تتصاعد من جسده وصوته يهز الأرض .
وهكذا أعاده ملائكة العذاب على تلك الحال يجرونه إلى وادي العذاب ، ورغم سعادتي للتعذيب الذي يتعرض له مثل هؤلاء غير أنني كنت أشعر برعشة شديدة في بدني ، فوضع ( حسن ) يده بهدوء على كتفي وقال : لا عليك فإنه يستحق مثل هذا العذاب .
هيا بنا فالطريق طويل والغبار ألقى بك في مكان خطير وموحش ، وإذا سرت خطوات نحو الأعلى سترى براكين من النيران تغلي وتلقي ألسنة النيران على الأرض ، وأهلها قد توقفوا عن الحركة وعليهم تجرع ذلك حتى يوم القيامة ، وأمثال ذلك الرجل كثيرون ولا شك في أنك ستصاب بالخوف والرهبة لمشاهدتك إياهم إذن من الأفضل أن لا نسير نحو الأعلى .
قلت : رغم علمي أن الأمر كذلك لكنه مليء بالعبر ولو استطعت لألقيت عليهم نظرة عابرة .
رد علي ( حسن ) كما قلت لك هذا المكان موحش للغاية ، وإن بعض أنواع العذاب يوم القيامة تبدو هنا مصغرة ومخففة وتنال المستحقين ، ومع ذلك فلا طاقة لك على تحمل رؤيتها ، وإذا تحليت بالصبر فإننا سنمر على جانب من برهوت وهناك الكثير من المذنبين الذين عجزوا عن مواصلة الطريق وأحاط بهم العذاب رغم التفاؤل بخلاصهم يوماً ما ، وهناك بإمكانك مشاهدة بعض المعذبين ، استجبت له وواصلنا طريقنا على سفح الجبل .

ذوبان الذنوب 

ونحن نطوي الطريق حدّثت ( حسن ) بقضية نحول الذنب ، فضحك ( حسن ) وقال : الحق مع الذنب إذا ما ضعف لأن بدنه كان في الدنيا أضخم مما عليه الآن وإن ما تجرعته من مصائب في الدنيا وصبرك عليها العذاب الذي تجرعته حين الموت هو الذي أنهك قواه .
وبالرغم من أن تذكر الابتلاءات والمصائب التي تعرضت لها في الدنيا كان صعباً ومرهقاً بالنسبة لي إلا إنني كنت مسروراً وفرحاً لأن ذلك حدّ من قوة ذنبي .
قطعنا شوطاً طويلاً ، ورغم عدم جرأتي على النظر إلى الجانب الآخر من الجبل غير أن صياح أهل الوادي وصراخهم لم يدعني أهدأ أبداً .

في قبضة الذنب 

لقد كانت مواصلة الطريق صعبة للغاية ، لكنني كنت أسير مستعيناً بـ ( حسن ) وفجأة وقع بصري نحو قعر الجبل فذهلت وتوقفت حيث شاهدت هيكلاً ضخماً يحمل شخصاً مكبل اليدين والرجلين وهو غير آبه بعويله وصراخه متجهاً به نحو أعلى الجبل .
عرفت أن هذا الهيكل هو ذنب ذلك الشخص ، وشاهدت ( حسن ) واقفاً مثلي يراقب المنظر ، لم يقترب ذلك الهيكل الأسود منا بعد وإذا بملائكة العذاب أطلوا من خلف الجبل يحملون معهم الأغلال كأنهم على علم بمجيء هذا الشخص . وعندما وصل الذنب عندهم ألقى بذلك المسكين وعاد إلى حيث أتى ضاحكاً بصوت عالٍ ، فتناول الملائكة ذلك الشخص وكبلوا رجليه بالسلاسل وسحبوه نحو وادي العذاب يضربون به الصخور .

دنا ( حسن ) مني وقال : هذا هو مصير الكافرين ، ثم ضرب بيده على كتفي وقال : هيا بنا فالطريق صعب وطويل .



نور الإيمان 

السلسلة الجبلية التي كنا نسير في سفحها كانت تعلو جبلاً تتصاعد منه النيران وتتصل بعنان السماء وقد سدت الطريق أمام العابرين ، شعرت بأن بلاءً جديداً قد برز أمامنا ، فدنوت من ( حسن ) مضطرباً مرعوباً وقلت له : يبدو أننا وصلنا طريقاً مسدوداً ، والطريق موصد أمامنا ، قال لي ( حسن ) وهو يواصل طريقه : لا بأس عليك وتعال معي فهنالك كهوف صغيرة وقصيرة في هذا الجبل علينا أن نعبر من أحدها لتدرك قوة إيمانك ، فسألته متعجباً : قوة إيماني ؟
قال : بلى .
قلت : وكيف ؟
قال : اعلم أن كل إنسان ينال السعادة يوم القيامة على قدر إيمانه ، وهنا صورة مصغرة لمقياس قوة الإيمان وعلى كل حال عليك النظر لا الكلام .

من رده فهمت أنه عليّ الصمت .
ثم ظهر أمامنا نفق ضيق مظلم لا نافذة فيه ولما دخلناه أصابني الهلع لشدة ظلامه ، وبعد خطوات توقفت وقلت لـ ( حسن ) : المسير في هذه الظلمة موحش وغير ممكن وما العمل إذا لحق بي الذنب في هذه الظلمة ؟
دنا ( حسن ) مني وقال : لا تفكر بمجيء الذنب ، فالضربة التي أنزلها به لن تجعله يلحقنا بهذه السرعة بالإضافة إلى أنه يضعف أكثر فأكثر في كل لحظة .
سررت لخلاصي من شر الذنب لفترة ، لكن التفكير بظلمة الطريق استحوذ عليّ مرة أخرى لذلك فقد توجهت إلى ( حسن ) متسائلاً : كيف سنتقدم في هذه الظلمة ؟
قال ( حسن ) : نظراً لما تتمتع به من إيمان سيظهر أمامنا نور يضيء لنا الدرب ، بعد قليل من الوقت شع من وجه ( حسن ) نور أضاء الطريق لعدة أمتار .
سرت إلى جانب ( حسن ) مسروراً ، وكنا نمر أحياناً بمستنقعات عميقة استطعت العبور منها بقوة إيماني .


المتوسلون 

قطعنا قليلاً من الطريق وإذا بصرخات وصياح في وسط ذلك الظلام يطرق مسامعي ، ولما أنصت قليلاً تبين أنه صوت بعض المتوسلين بنا كي نفيض عليهم من نورنا فيقتبسوا منه ويسيروا على ضوئه .
كان ( حسن ) يسير أمامي فناداني قائلاً : لا تستمع لهم فإنهم حثالات المنافقين والكافرين جاؤوا إلى هنا إنهم لا يستحقون ولو قبساً ضعيفاً من النور ومصيرهم السقوط في واحد من هذه الحفر الموحشة ، وحيث واجهنا إصراراً منهم توقف (حسن) وخاطبهم : إن كنتم بحاجة إلى نور الإيمان فارجعوا إلى الدنيا وأتوا به .
التفت أحدهم نحوي وقال : يا عبد الله ألم نكن وإياكم على دين واحد ؟ ألم نكن نحن وأنتم من المصلين الصائمين ؟ فلماذا تقولون ارجعوا إلى ذلك العالم وأنتم تعلمون أنه مستحيل .
استشطت غضباً وصككت أسناني على بعضها وقلت لهم : نعم لقد كنتم معنا لكنكم كنتم تعملون للقضاء على ديننا لا لنصرته ، لقد كنتم بالمرصاد تحاولون ضرب الإسلام وها أنتم الآن قد عرفتم إنكم كنتم من المخدوعين .




تخاصم المجرمين 

انتهى كلامي معهم ثم دنوت من ( حسن ) وقلت له : هيا بنا لئلا يعاودون الإلحاح .
قال ( حسن ) : أما ترغب أن تستمع تخاصمهم وتنازعهم ؟ تأمل جيداً ، فأنصت لهم فسمعت أصواتهم في قلب الظلام وإذا بهم يخاطب بعضهم بعضاً : ( لولاكم لكنا مؤمنين وتمتعنا بنور الإيمان ) فرد عليهم أولئك : أنحن صددناكم عن الإيمان ؟ فإن كنتم تريدون الإيمان لآمنتم .
مضت لحظات من الصمت ثم صرخ أحدهم غاضباً : إن فلاناً هو السبب فقد بدأ بلاؤنا منذ أن استمعنا لما قاله وأطعناه !
فأجابه : لو أنكم لم تطيعوني طاعة عمياء ، فارتفع صوت شخص آخر : لقد أطعناك في الدنيا فهيا أنقذنا مما نحن فيه .
وهنا ارتفع صوت كبيرهم قائلاً : ( أما ترون أننا جميعاً مشتركون في العذاب فأنى لي إنقاذكم ) وما أن انتهى كبيرهم من الكلام حتى بدأ الذين اتبعوه بالدعاء بالويل والثبور عليه قائلين : ( ربنا إننا بريئون فهو كبيرنا ومرشدنا في الدنيا فضاعف عليه العذاب ) .
لم ينته تخاصمهم بعد فجذبني ( حسن ) وقال : هيا بنا نسير فإن نزاعهم لا نهاية له وسيطول نزاعهم في جهنم أيضاً . وبعد خطوات تناهى إلى مسامعي صوت رهيب فسألت ( حسن ) عن مصدره فقال : هو صوت أحد المجرمين قد سقط في حفرة سحيقة .
سررت لأن مثل هذا العذاب لا يطالني وهذا ما دفعني إلى مواصلة الطريق بمزيد من الأمان .


سرعة العبور 

تقدمنا قليلاً وإذا ببعض أنوار خافتة وأخرى قوية نسبياً تلفت انتباهي . فتصورت أنهم طائفة مثلنا يسيرون على ضوء نورهم ، ولم يمض سوى قليل من الوقت حتى وصلنا شخصاً يتخطى رويداً رويداً على ضوء واحد من الأنوار الخافتة جداً فسلمت عليه وسألته عن حاله فقال : لقد أصابني الإرهاق ، فعلى الرغم من أنني أسير في هذا النفق منذ مدة طويلة لكنني لا زلت في بداية الطريق .
قلت : هذا بسبب قلة إيمانك ، أيد ماقلته له ، وفي الوقت الذي كان يمشي ببطء تأوه بشدة وقال : واحسرتاه واحسرتاه ، ولم نبتعد عنه سوى خطوات وإذا بصراخه يعلو ، أردت الرجوع لكن ( حسن ) قال بسرعة : لقد تعجل وحيث أن نور إيمانه ضعيف جداً فقد هوى في إحدى الحفر قلت : وما الذي سيحصل في آخر المطاف ؟
توقف ( حسن ) وقال : لا شيء فإن ( حسن ) الخاص به سينقذه ، لكنه يصل مقصده متأخر جداً . وما أن انتهى ( حسن ) من كلامه سطع أمامنا نور أخذ بأبصارنا ولما اختفى سألت ( حسن ) متعجباً : ما الذي حصل ؟ فتأوه ( حسن ) وقال : إنه أحد علماء الدين قضى عمره مطيعاً عابداً مخلصاً لله ، وها هو الآن طوى هذا الطريق المظلم بسرعة فائقة مستنيراً بنور إيمانه ، فتحسرت أنا أيضاً وقلت : طوبى له ، فيا له من نور ويالها من سرعة .
دخل الهم فؤادي ووضعت رأسي بين ركبتي من الندم والخجل وقلت : واحسرتاه فهذا النور هو نتيجة أتعابي لسنوات طويلة من عمري .
ناديت نداءً انطلق من أحشائي : يا إلهي ، ياعليماً بأحوال الأحياء والموتى انظر إليّ وزدني نوراً ليسهل عليّ العبور من هذا المعبر الشاق .
وبقيت على تلك الحال أبكي وأبكي حتى شعرت بأن النفق ازداد نوراً ولما رفعت رأسي من بين ركبتي شاهدت ( حسن ) وقد أصبح أكثر نورانية من ذي قبل فنهضت وتوجهت نحوه مذهولاً وقلت له : لقد أصبحت أكثر نورانية !
قال : لقد منّ الله عليك برحمته وأفاض عليك بنور مضاعف وهذا بلا شك يعتبر استجابة لدعائك في الدنيا حيث كنت كثيراً ما تطلب رحمة الله لسفرك الأخروي ، ثم واصل كلامه : لا أحد يستطيع العبور من برهوت معتمداً على عمله الصالح ، فلا بد من أن تشمله رحمة الله إلى جانب عمله .
سررت كثيراً وحمدت الله على لطفه ورحمته اللامتناهية ، كنت أسير بسرعة وأمان أكثر حيث تجاوزت بعض الناس فيما استطاعت مجموعة أخرى تجاوزنا ، ومع أني كنت أشعر بالإرهاق لكنني لم أكن أبالي بسبب لهفي لوادي السلام ، فقلت لـ ( حسن ) : ما أطول هذا الممر ؟
فأجابني ( حسن ) وهو يحث الخطى بسرعة : لو أنك صمدت أمام غبار الشهوات لكان الطريق قد سهل عليك كثيراً ، والآن لا بأس فعليك الصبر قليلاً فما أسرع أن ينتهي هذا الطريق .