ولكن لم يطل المقام
ولم يستمر الحال حتى سادت وادي السلام حالة مدهشة بسبب حركة الملائكة الدؤوبة, ولما فاستفسرت من "حسن: عن السبب أجابني: كل ذلك يرتبط بالدنيا ويبدو أن حدثاً عظيماً سيقع.
كنتُ جالساً في محفل شيَّق بين مجموعة من الأصدقاء فأطلعت على خبر هذا الحدث العظيم, ففي تلك الأثناء جاء ملكُ وسلَّم على الحاضرين ثم خاطب أحد المؤمنين: لقد ظهر إمامك فإن شئت العودة إلى الدنيا كي تكون إلى جانبه, وإلاّ فبإمكانك البقاء متنعماً في بحبوحة الرحمة الإلهية ففضل ذلك المؤمن الرجعة فغادرنا.
الآن اتضح للجميع أن قائم آل محمد قد ظهر ليسوق الدنيا التي تعج بالظلم والجور نحو الحق والعدالة.
ومضت مدة- رغم قصرها في نظرنا- لكنها تمثل سنوات متمادية من عمر العالم المادي, وكنا نسأل الواردين علينا حديثاً عن أخبار الظهور وقيام الإمام المهدي عليه السلام.
فكان أحدهم يقول لنا: إن الدنيا تشتعل بنيران الظالمين, فكل فئة تشعر بوجود القوة لديها تشهر راية الحرب, فيما لا يسمع أحدُ صوت المظلومين, والقلاقل والبلايا والزلازل المستمرة التي ضربت الأرض قد ضيَّقت الدنيا على سعتها في أعين أهلها, فالجميع مرهقون وقانطون, ولكنهم كانوا ملعقين الأمل بمجيء منقذٍ عادلٍ حريص عليهم.
والإسلام جاء غريباً قد عاد تلفه الغربة من جديد, وهكذا كان حال الدنيا وأهلها إلى فترة سبقت ظهور الإمام المهدي عليه السلام, وفي شهر رجب ارتفعت في السماء ثلاث نداءات أذهلت الجميع, أوّلها قضّت مضاجع الظالمين لأنه أوعدهم باللعن الإلهي (ألا لعنة الله على الظالمين) ولعل منذ تلك اللحظة تأزمت الأوضاع في الشام, وفي النتيجة انتصر جيش السفياني على الفئتين المناهضتين له. وفي ذلك الوقت وقفت تحركات وثورات قد تكون صغيرة أو كبيرة هنا أو هناك من العالم, ووصلت أخبار عن قدوم جيش من خراسان إلى العراق, وقدوم شخص من اليمن يقود جيشاً لنصرة الحق.
ثم حدَّثنا أحد الواردين الجدد: قبل ظهور الإمام عليه السلام ترددت أخبار عن ظهور شخصٍ أعور يدعى الدجال حاول خداع الناس ويزعم أنه الله وعلى الناس أتباعه وقد أوقع الكثيرين في أحابيله عن طريق دعاياته الواسعة الذكية, بحيث أن مجاميع كبيرة كانت تنضم إليه يومياً, كما تتردد الأخبار من مكة عن اجتماع 313 من المؤمنين الصالحين وخيرة البشر على الأرض في المسجد الحرام استعداداً لأمر هام, تبين فيما بعد أنهم جاؤوا لاعلان البيعة لواحدٍ من أبناء رسول الله صلَّ الله عليه وآله وسلم.
في تلك الأثناء حيث كان اليوم جمعة وصادف يوم عاشوراء, وإذا بصوت مؤثر صرّاخ من داخل المسجد الحرام يتلو قوله تعالى:
" بقية الله خيرُ لكم إن كنتم مؤمنين"
ثم يواصل نداءه فيصيح: أنا بقية الله في أرضه, وتلا ذلك أنطلق في السماء يؤكد: الحق في إتباع قائم آل محمد صلَّ الله عليه وآله وسلم.
غط الجميع في دهشتهم, الظالم والمظلوم رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً. هنا ارتفع صوت آخر يتسم بالشيطنة من زاوية أخرى من العالم يدعو إلى اتباع السفياني, فوقع حشد كبير ضحية الوسوسة والشك في تشخيص الحق بعد سماعهم لهذا الصوت.
وبعد ظهوره عليه السلام توجه مع أنصاره القلائل إلى المدينة, وحيث أن الناس كانوا قد سمعوا مثل هذا الشخص بأنه منقذ البشرية فقد تعجبوا لقلة ناصريه ولم يصدقوا بقدرة مثل هذا الشخص على إنقاذ البشرية, ولما وصل عليه السلام إلى المدينة وصله خبر السفياني بجيش مجهّز نحو المدينة يطلب قتله عليه فيغادر عليه السلام المدينة إلى مكة, غير أن جيش السفياني الذي كان يلاحق الإمام عليه السلام يذهله نداء سماوي فيتعرض للخسف في منطقة البيداء على مقربة من مكة.
واصل أحد شهود العيان سرد القصة فقال:
بعد معرفة أهل العالم بظهور الإمام عليه السلام جاء الشيعة أفواجاً أفواجاً إلى مكة لاعلان البيعة, حتى أن أهل خراسان جاؤوا لبيعة الإمام عليه السلام تلبية لطلبه, حتى أنطلق عليه السلام بنهضته فتوجه نحو المدينة ومنها إلى الكوفة وبعد مدة قضاها في الكوفة غادر إلى العذراء وفيها التحق بالإمام عليه السلام حشدُ كبير ليتشكل منهم جيش جرار, وهناك التقوا السفياني وما تبقى من فلول جيشه فتقابلت من كل جيش فرقة تقصد القضاء على غريمتها, وكان في جيش الإمام أشخاص من قبيل مالك الأشتر, المقداد, سلمان, عبدالله بن شريك العامري, داود الرقي, وطائفة أخرى من العظماء رجعوا من عالم البرزخ إلى الدنيا لينالوا وسام الجهاد بين يدي الإمام عليه السلام.
بعد فترة وجيزة, انطلقت معركة ضارية كانت نتيجتها النصر لجيش الإمام عليه السلام حيث تعرض السفياني خلال تلك المعركة التاريخية إلى انتقام إلهي قاسٍ لأنهم قد سقوا الأرض من دماء شيعة أهل البيت عليهم السلام ومحبيهم.
ثم توجه عليه السلام إلى تل أفيق لحرب الدجال, وبعد صراع مرير وقع يوم جمعة قضى الإمام عليه السلام على الدجال ومن معه.
أخذ أحد أنصار الإمام المهدي عليه السلام ممن أمضى مدة طويلة في ظل حكومته العادلة, يحدثنا عن خطط الإمام عليه السلام فقال:
من أعماله عليه السلام الانتقام من الظالمين الذين كانوا قد رحلوا عن الدنيا, فقد عادوا إلى الدنيا ونالوا جزاءهم الدنيوي, مثلما رجع بعض الصالحين إلى الدنيا ليتمتعوا بنصرة قائم آل محمد عليه السلام.
وأنا شخصياً شاهدت أثنين من أهل البرزخ كانا قد علَّقا بمشنقة ثم جرى إحياؤهما لتوضّح لهما جرائمهما, وأخيراً اعترفا بخطاياهما فنالا جزاء أعمالهما.
بعد القضاء على أعداء الدين والقسط أصدر عليه السلام أوامره بالإعمار الشامل للعالم فأخرجت الأرض والسماء بركاتها وذخائرها وأخذت تهب نسائم العدل على شرق الأرض وغربها.
وأخيراً تمتع البشر بالمدينة الفاضلة والعالم المزدهر وانتهى زمن القنوط من بلوغ ذلك, وأعظم ما افتخر به هو أنني عشت أياماً في ظل راية باسط العدل في العالم ومن ثم أغمضت عينيَّ عن الدنيا متنعماً باسمه وذكره, ولقد كان وادي السلام رغم سعته يعيش قبل ظهوره عليه السلام وإقامة حكومة العدل فتح أبوابه ليستقبل على الدوام قوافل السعداء الذين كانوا يقطعون صراط البرزخ –أي برهوت- في أقصر مدة.
لقد حكى لنا الذين عاشوا تحت لواء حكومة العدل الإلهي عن عالمٍ مزدهر وحكومةٍ مقتدرة, الحكومة التي ظل نور هدايتها يزهر حتى آخر يوم من عمر البشرية حيث شاء الله أن يرفع بساط الحياة عن الأرض.
نفخة الصور
وحلّ ذلك اليوم الذي استقبل فيه عالم البرزخ الآلاف من بني آدم ودّعوا عالم المادة بأجمعهم وعلى عجلٍ.حضرت مجموعة منهم عندنا وأخذوا يحدثوننا عن اللحظات الأخيرة فقال أحدهم: كنت في السوق منهمكاً بالبيع والشراء ولما أردت دفع ثمن السلعة التي اشتريتها سمعتُ صوتاً رهيباً عالياً سلب مني قدرتي فأسلمتُ روحي.
وحدّثنا آخر: كنتُ أتحدث إلى صديقي وإذا بذلك الصوت قد فصل روحي عن جسدي.ثم التفت إلى "حسن" ليحدثني عن تلك الصيحة فقال: إن الصوت الذي سمعه أهل آخر الزمان فارعبهم ثم ماتوا هو صوت اسرافيل الذي جاء بأمر من الله سبحانه, وبه هلك جميع أهل السماوات والأرض وها هي الدنيا تخلو من كل كائن حي فلا وجود إلا لله.
ذهلت لتصور ذلك المشهد, ولكن ازداد ذهولي عندما تحدث " حسن" عن نفخةً أخرى فقال: عندما تقوم القيامة الكبرى ينفخ اسرافيل نفخة الحياة فيحي الجميع.
هاهو مستقري يتغير نحو درجة أعلى بعد حصولي على شفاعة أخرى من المعصومين الأربعة عشرعليه السلام وبعض الشهداء.
وكان مستقر الشهداء يعلو مستقري بكثير وكانت أصواتهم تبعث السرور عند مجاوريهم, وكثيراً ما كنت أغبط الذين حشروا مع الشهداء ويجالسونهم لكن الاطمئنان كان يدخل قلبي لما أعيشه من رحمة إلهية. والأهم من ذلك أن زمرة من خلّص الشيعة كانوا يرتفعون إلى أعلى درجات وادي السلام ليلتقوا بآل الرسول صلَّ الله عليه وآله وسلم.
في انتظار القيامة
ها نحن أهل البرزخ نواصل حياتنا في وادي السلام بعيداً عن المنغصات والحسد والتخاصم والضغينة والحرص والرعب والرهبة ومراقبة الآخرين, بل حياة ملؤها السعادة والنشاط وننتظر القيامة الكبرى, كي نرد ما وعدنا ربّنا من الجنان بعد أن نجتاز صراط القيامة.
ولكن لا مناص من أن تمضي سنوات وسنوات من حياة العالم المادي ليتغير وضع السماوات والأرض وما فيها لتتهيأ مقدمات القيامة الكبرى وينفخ في الصور وتعودالأرواح إلى أبدانها.