ولادته ونشأته
في ليلة الجمعة الخامس والعشرين من شوال عام 1334 للهجرة، الموافق لعام 1916 الميلادي، وفي مدينة «فومن» من توابع محافظة جيلان في شمال إيران، أنار منزل كربلائي محمود وليدٌ جعلته يد التقدير الإلهية فيما بعد مَعيناً ينهل منه عشاق العلم والمعرفة من شيعة أهل بيت العصمة والطهارة ومناراً يضيء لسالكيه درب السير إلى الله سبحانه وتعالى؛ إنّه آية الله الحاج الشيخ محمدتقي بهجت (قدسسره). وما أن بلغ هذا المولود الشهر السادس عشر حتى اختطفت يد الموت أمه الحنون التي كانت تغدق عليه الحب والرحمة وأفجع فقدها تلك العائلة التي خيّم عليها الحزن والألم، إلا أن أخته الكبيرة قامت مقام أمها وتكفلت تربيته فأصبحت أماً لأخيها.
وترعرع محمدتقي في أحضان والده ودخل محفلاً لتعليم القرآن وهو في نعومة أظفاره حيث يجلس الملا حسين الكوكبي الفومني يعلّم حضّاره قواعد التلاوة القرآنية. لكن روح هذا الفتى العطشى لم ترتوِ بعدُ حيث كانت تتطلع للمزيد من المعرفة فيمِّم وجهه شطر الحوزة العلمية في فومن لتفكك له بمعارفها أسرار آي الذكر الحكيم ورموز روايات الأئمة الأطهار من آل محمد (ص) لتعيها أذنه الواعية. وهنا في حوزة فومن وجد محمدتقي ضالته في درس الشيخ محمدتقي القاضي المتقي الذي كان يرعاها ويرفدها بنشاطه ومثابرته وهداية حلقات المباحثة والحوار ومذاكرة العلوم الدينية المختلفة.
إلى جانب ذلك راح هذا التلميذ وبجدية فائقة الوصف وشوق متزايد يطوي السير سبع سنوات بتجوال بصره وإعمال فكره في المتون الأدبية الفارسية ككتابي البستان والروضة وكلاهما للشاعر الإيراني سعدي وكتاب كليلة ودمنة حتى أصبح من تلاميذ الأستاذ الأوائل.
ولم تنته تطلعات محمدتقي عند الحوزة العلمية ودروسها فحسب بل كان يطوي بموازاة ذلك طريق المعرفة والأخلاق وتهذيب النفس وكسب الفيوضات المعنوية على يد آية الله الحاج الشيخ أحمد الفومني.
خطوات على طريق الهجرة
لاشك أن الأوقات التي كان يقضيها محمدتقي مع أساتذته في حوزة فومن العلمية وهم خريجو الحوزة العلمية في النجف كان يتخللها الكلام عن ذلك الجو العلمي المقدس ومحاضر الدروس الرائعة التي تتصف بها الحوزات العلمية في العراق خاصة تلك التي ترفل بجوار أمير المؤمنين وسيد الشهداء (ع) مما كان يسبب زيادة حرارة الوجد والشوق في قلب هذا التلميذ وكان يحاول استباق الزمن وطي المسافات لكي يرد تلك الديار النيرة ويحضر تلك الدروس البهيجة حتى إذا ما حانت الفرصة أسرع محمدتقي ليضع قدمه على طريق الهجرة التي حان وقتها وكان ذلك في جمادي الثانية عام 1348 الهجرة الموافق لعام 1930 الميلادي وهكذا أسلم هذا اليافع المقدام قلبه بيد الهجرة إلى تلك الديار لتسكن هناك روحه الهائمة بحب أئمتها المعصومين وتهجع تحت ظل قباهم الشامخة ولينهل ذهنه الوقّاد من رحيق أساتذة تلك الديار المحبوة بنور العلم والمعرفة والكمال. حيث أودعه والده الرؤوف الذي لمس شوق ولده المتأجج لتلك الديار بكفالة أحد أصدقاءه من ذوي المكنة الذي كان عازماً على زيارة الأئمة الطاهرين (ع) كي يوصله إلى كربلاء المقدسة. ولم يكن المهاجر يومها قد بلغ الحلم وكان في ربيعه الرابع عشر لكنه كان يحمل كنوزاً من العلم والمعرفة.
أقام محمدتقي بادئ ذي بدء في بيت عمه الذي كان يومها يسكن كربلاء وبقي فيه لمدة سنة ثم انتقل إلى حجرة في إحدى المدارس الدينية. كانت الحوزة العلمية في كربلاء آنذاك تزهو بوجود أساتذة كبار مما جعل محمدتقي يشمّر عن ساعد الهمة ويطوي مراحل مهمة في دراسة الفقه والأصول خلال سنوات إقامته الأربع فيها وفي السنة الثانية من إقامته ولدى مجيء والده البار إلى كربلاء المقدسة جرت مراسم تتويجه العمامة على يد آية الله الشيخ جعفر الحائري الفومني.
وقد واكبت نشاطه الحوزوي في هذه الفترة جهود جادة في مسار تهذيب النفس ومعالي الأخلاق من خلال تضرعه وتوسله بسيد الشهداء (ع) الذي كان يقضي أوقاتاً معنوية سامية بجوار حرمه منحته مرتبة أعظم من المراتب العلمية التي نالها.
الهجرة إلى النجف
لم يفتر وهج شوق الحضور في كربلاء المقدسة والدراسة في حوزتها حتى تأجج وهج آخر في نفس الشيخ محمدتقي يجذبه للهجرة إلى النجف الأشرف ومجاورة روضة أمير المؤمنين (ع) الملكوتية ومواصلة طلب العلم في الحوزة العلمية العظمى هناك فهاجر إليها ليجد ضالته فيها. وهناك تمتد جذور الحوزة العلمية المجيدة إلى ألف عام وهي محط رحال العلماء وملتقى الفقهاء ومأوى العرفاء وهذا ما أعطاها أهمية قصوى في نفس محمدتقي ليغوص في هذا المحيط العميق اللامتناهي ولكي يحظى بجني درره العلمية وجواهره المعرفية وآفاقه العرفانية. وفي بداية قدومه للنجف أنهى دراسة السطوح العالية على يد كبار الأساتذة كالشيخ مرتضى الطالقاني والسيد هادي الميلاني والسيد أبو القاسم الخوئي والشيخ علي البروجردي والسيد محمود الشاهرودي حتى أصبح مؤهلاً لحضور دروس خارج الفقه والأصول.
حيث حضر درس أساتذة من الطراز الأول ومحاضر أساطين الفقه والأصول وعلوم ومعارف أهل البيت (ع) ففي الأصول حضر عند آية الله الشيخ ضياءالدين العراقي وآية الله الميرزا النائيني وفي الفقه عند آية الله الشيخ محمد كاظم الشيرازي. ناهيك عن حضوره درس الفقيه البارز صاحب المقام الشامخ آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني إذ نال من ذلك الحظ الوافر والعلم الظافر.
وقد أصبح محط أنظار أساتذته لما كانوا يلاحظون عليه من الذكاء المفرط ودقة النظر والخلاقية الذهنية حينما كان يطرح إشكالاته العلمية على أستاذه خلال الدرس.
إضافة لدراسة الفقه والأصول، اعتنى الشيخ محمدتقي بدراسة الفلسفة والعلوم العقلية ودرس في هذا المضمار: «الإشارات والتنبيهات» و«الأسفارالأربعة» عند السيد حسين البادكوبي.
ولم تقتصر نشاطاته على هذه الأمور بل كان يلقي دروساً في السطوح العالية بالإضافة إلى مساعدته للمحدث الكبير الشيخ عباس القمي في تأليف كتاب «سفينة البحار». ناهيك عن كسبه تجارب عرفانية من أساتذته الفحول في هذا المجال.
وبالإضافة إلى كل هذه الجهود والمجاهدات والفوائد التي حصل عليها من علماء وفضلاء الحوزة العلمية في النجف إلا أن هناك شخصيتين تركتا بصماتهما وآثارهما العلمية والمعنوية على شخصية آية الله بهجت أولهما: العلامة الكبير آية الله الغروي الأصفهاني المعروف بالكمباني الذي كان يتمتع بفكر نافذ فلسفي علمي دقيق حيث تتلمذ عليه مدة طويلة إلا أن أفكار هذا الأستاذ الفذ لم تكن في مأمن من نقد هذا التلميذ وإشكالاته المتتابعة إلى الحد الذي أصبح فيه من أفضل تلامذة هذا الفقيه الكبير. ولم تقتصر إفادته من أستاذه هذا على الجوانب العلمية بل نال منه أيضا فيوضات معنوية وفوائد أخلاقية عالية كانت آثارها مشهودة في سيرته الحياتية.
وثانيهما: العارف والسالك الأوحد آية الله العظمى الميرزا السيد علي القاضي (ره) الذي وجد فيه الشيخ بهجت ضالته منذ دخوله النجف حينما كان له من العمر ثمانية عشر سنة فتتلمذ على يد جبل العرفان هذا الذي كان درسه سيل من الفيض المعنوي. وقد غمره السيد القاضي بلطفه وعنايته ورغم أنه كان في عنفوان شبابه إلا أنه استطاع أن يطوي مراحل مهمة في السير والسلوك بما جعل الآخرين يغبطونه على ذلك وصار محط إعجاب واهتمام أستاذه القاضي حتى أصبحوا يلقبونه بالفاضل الجيلاني.
إن الفترة التي أقام بها الشيخ محمدتقي في النجف الأشرف مليئة بالتقلبات والحوادث لكنها مع ذلك كانت فرصة ذهبية لتهذيب نفسه وترويضها وبذل الوسع إلا أن شدة جديته في طلب العلم وهمته في تهذيب نفسه كانت تؤديان به إلى أن يتعرض باستمرار لوعكات صحية حادة حيث كانت تأخذ مأخذاً من جسمه النحيف وتضطره في كل مرة خلال فترة العلاج إلى ترك الدراسة والسفر إلى سامراء والكاظمية وكربلاء لتغيير الجو حتى إذا ما تماثل للشفاء عاد إلى مثابرته ونشاطه مرة أخرى.
العودة إلى الوطن
وأخيرا وبعد ستة عشر عاماً مرت بجوار روضتي أمير المؤمنين وسيد الشهداء (ع) ملؤها العمل الدؤوب والجهد الذي لا يعرف الكلل والملل في طريق طلب العلم والمعرفة والتتلمذ على الطراز الأول وأساطين العلم في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وبعد سنين من التدريس والتحقيق يعود ذلك الشاب إلى مسقط رأسه حاملاً شهادة الاجتهاد بصدر يفيض علماً وقلب مواج بالمعرفة ولكي يعالج مرضه الشديد الذي ألمّ به من كثرة العبادة وبذل الجهد. وكانت عودته في شوال عام 1364 الهجرة الموافق للعام الميلادي 1946.
وبعد مدة قصيرة انقضت بلقاء العائلة والأقارب والمحبين استجاب العائد المجتهد لطلب أخته الكبيرة التي قامت مقام أمه بتحقيق رغبتها في تزويجه.
مضت شهور قضاها الشيخ محمدتقي في فومن حتى إذا انقضى شهر رمضان جدّ عزمه للرجوع إلى النجف الأشرف ولكي تكون سفرته هذه المرة بجواز سفر، قرر إنجاز ذلك في مدينة قم المقدسة حيث أقام فيها بجوار كريمة أهل البيت السيد فاطمة المعصومة (ع) ولكي يطلع على شؤون حوزتها العلمية ثم ينطلق بعد ذلك إلى النجف الأشرف.
حرم أهل البيت (ع)
كان دخول آية الله بهجت إلى مدينة قم المقدسة في شوال عام 1365 الهجري ولم تمض على إقامته عدة شهور حتى توفي والده الرؤوف في صفر 1365 الهجري ورقد في مضجعه بعد أن اطمأن على مستقبل ولده العزيز محمدتقي.
وهكذا فإن الإقامة في قم كانت مصحوبة بحوادث مؤسفة حيث توالت الأخبار بوفاة آية الله السيد أبو الحسن الأصفهاني في ذي الحجة من عام 1365 الهجري وبعدها بمدة قصيرة وبالتحديد في ربيع الأول 1366 هجري رحل آية الله الميرزا السيد علي القاضي إلى جوار ربه في النجف الأشرف.
وأثّر فقد هذين العلمين اللذين احتلا موقعاً خاصاً في فكر وحياة آية الله بهجت تأثيراً بالغاً وأدى إلى تثبيط عزيمته في الرجوع إلى النجف الأشرف والإقامة في جوار حرم كريمة أهل البيت (ع) ومزاولة النشاط العلمي في حوزتها العلمية التي لم يمض على تجديدها ربع قرن على يد آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري فكانت النتيجة أن توارد رهط من العلماء والمجتهدين البارزين عليها فزاد حضور الشيخ بهجت فيها آثاراً علمية مشهودة ورغم إحرازه مرتبة الأجتهاد، لکنه حرص علی أداء الاحترام تجاه أساتذة حوزة قم، فبدأ نشاطه فيها بحضور درس الخارج لآية الله العظمی الحجة الكوهكمري ودرس آية الله العظمى السيد حسين البروجردي وأصبح بذلك زميلاً للإمام الخميني (قدسسره) وآية الله العظمى الگلبايگاني وآخرين من الذين شكلوا عصبة عدت من أبرز الشخصيات التي کانت تحضر درس السيد البروجردي الذّی غطّت مرجعيته الآفاق. وبرز الشيخ بهجت بعد فترة کأحد أبرز التلامذة المعروفين بطرح الإشكالات العلمية في درس الأستاذ.
نشاطاته
كانت لشيخنا الراحل نشاطات عدة منها: بدأ بعد دخوله مدينة قم المقدسة مباشرة بالتدريس وبعد مضي سنة على ذلك شرع بتدريس خارج الفقه والأصول واستمرت دروسه هذه لأكثر من ستين عاماً حتى وافاه الأجل. ففي الصباح كان يلقي محاضراته بتدريس خارج الفقه وفي المساء يلقي درس خارج الأصول وقد كان يلقي دروسه هذه في حجرة إحدى المدارس بعيداً عن الأضواء وطلب الصيت والشهرة.
ثم اتخذ من بيته مقراً للتدريس رغم بساطته إلا أنه وبعد إلحاح تلامذته الشديد وافق على أن يكون محل دروسه مسجد فاطمية الذي كان يؤدي فيه صلاة الجماعة وكانت سنة هذا الانتقال 1418 الهجرية وهكذا استمر في إلقاء الدروس في ذلك المسجد حتى نهاية عمره المبارك.
وكان شيخنا بهجت (قدسسره) أيضا يولي أهمية قصوى لإقامة مجالس العزاء على مصائب أئمة أهل البيت الأطهار (ع) على مدار السنة وخاصة على الإمام الحسين (ع) لأكثر من أربعين عاماً من عمره الشريف.
بدايةً كان يقيم هذه المجالس في بيته، وبعد أن انتهت إليه المرجعية كانت تقام في مسجد فاطمية الذي كان ـ رغم صغره ـ يتميز بالنقاوة والروحانية والبساطة. وكان (قدسسره) يواظب على حضوره في هذا المجلس حتى في أصعب الظروف التي كانت تتمثل في سنه الطاعن والبرد أو الحر الشديدين بل حتى في حالات مرضه وكان يتوجّع ويتفجّع لمصاب ومظلومية سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (ع) ويدرف الدموع. وکان دأبه (قدسسره) الإقامة مدة فصل الصيف في مشهد الإمام الرضا (ع) وهناك كان يقيم مجلسه الحسيني.
ويبدو أن اهتمامه الشديد ومواظبته الجادة على إقامة مجالس العزاء سيد الشهداء (ع) وإصراره على حضورها بنفسه يرجع إلى تقيّده والتزامه بوصية أستاذه القاضي الذي كان قد أوصاه بأن لا يدع إقامة العزاء على أبي عبد الله (ع) أسبوعياً.
من هنا كان مجلس العزاء الأسبوعي هذا محفلاً يستهوي قلوب عشاق أهل البيت والوالهين بحبهم. وكانوا يأتون من كل حدب وصوب، من داخل إيران وخارجها من شتى أقطار العالم لكي ينيروا نواظرهم برؤية هذا العبد الصالح ويحضروا مجلس العزاء الحسيني حيث تمتزج دموع حزنهم على سيد الشهداء بدمع شوق للقائهم بهذا المرجع العظيم.
ومن الأمور التي كان آية الله العظمى يوليها بالغ الأهمية وما انفك يؤديها منذ دخوله قم المقدسة، هي إقامة صلاة الجماعة، والتي كان يحضرها الأجلاء من المؤمنين وذوي الشأن من علماء الحوزة العلمية، وكان لسنوات متمادية يأمّ المصلين في الصلوات الخمس لكنه في سنين عمره الأخيرة ونظراً لشيخوخته اقتصر الحضور لصلاتي الظهر والعصر فقط.
وليس بوسع الكلمات وصف صلاته الملوكتية أو درك صورتها البهية وروحانيتها ولا بوسع أحد إلا البعض من أولئك المصلين الذين كانت صفوفهم تتراصّ إلى حد تتزاحم فيه أكتافهم فيضطرون إلى شغل ساحة المسجد الخارجية حيث تتصل صفوفهم بصفوف أولئك الذين افترشوا أرض الزقاق المحاذي لمسجد فاطمية وهم يستمعون بآذان قلوبهم إلى صوته المنبعث من داخل محرابه وهو يتلو آيات الذكر الحكيم، أو يردد أذكار الركوع والسجود والقنوت وقد غلبت عليه حالة المضطر المستجير باستغاثات يقطّعها النحيب، وكأنه لا يريد أن ينفتل من لقاء حبيبه.
الأمر الثالث الذي كان فقيدنا بهجة يوليه بالغ الأهمية هو حضوره المتواصل يومياً في الحرم الطاهر والملكوتي لكريمة أهل البيت السيدة فاطمة المعصومة (س) حيث كان دأبه حتى آخر عمره المبارك ـ الذي توسّط العقد العاشر ـ أن يتشرف بعد أداء صلاة الصبح بزيارتها وينأى في زاوية من زوايا الحرم ليختلي هناك خلوة عاشق ويقرأ بعض الزيارات والأدعية ويؤدي بعض الصلوات.
مؤلفاته
وفي خضم هذه النشاطات لم يغفل هذا العبد الصالح جانب تدوين وتصنيف نظرياته العملية وآراءه الفقهية. وله في هذا المجال مؤلفات عديدة في الفقه والأصول إلا أنه كان يمتنع عن طبع أكثرها ولم يستطع بعض من حوله أن يحصل على موافقته بتغطية تكاليف طبعها دون الاستفادة من الحقوق الشرعية وكان يقول لهم: هناك الكثير من تصانيف أعاظم العلماء لا تزال بصورتها الخطية فبادرو إلى طبع تلك، عند ذاك يأتي دور هذه.
ومن جملة مصنفات هذا العالم العارف هي:
1. مباحث الأصول، دورة أصولية كاملة.
2. حاشية على مكاسب الشيخ الأنصاري (ره)، إلى نهاية المباحث الخاصة بالمتاجر.
3. دورة فقهية تحت عنوان (بهجة الفقيه) تشمل كتب الطهارة والصلاة والزكاة والخمس.
4. حاشية على كتاب ذخيرة العباد للمرحوم الشيخ محمد حسين الغروي (ره).
5. حاشية على مناسك الشيخ الأنصاري (ره).
وله أيضاً تصنيفات أدبية وشعرية و...
من جملة ما طبع من كتبه في حياته وبإلحاح ومباشرة بعض تلاميذه هي:
1. رسالة توضيح المسائل (بالفارسية والعربية)
2. مناسك الحج
تم تدوين الكتابين أعلاه من قبل بعض الفضلاء طبق فتواه (قدسسره)، وبعد حصول موافقته.
3. وسيلة النجاة، يشتمل هذا الكتاب على آراءه الفقهية في بعض أبواب الفقه تعليقاً على متن كتاب «وسيلة النجاة» تأليف أستاذه آية الله السيد أبو الحسن الأصفهاني وطبع منه المجلد الأول بموافقته.
4. جامع المسائل، دورة فتاوی فقهية، وهي حصيلة جهود هذا الفقيه الفذ طيلة 25 سنة من عمره منذ تصديه لمنصب الإفتاء وهي دورة نادرة في نوعها وطبعت في 5 مجلدات عام 1413 هجري.
إن حصيلة أكثر من نصف قرن من الجد والجهد العلمي والمجاهدة السلوكية دون كلل أو ملل قد أعطت من الثمار والبركات ما لا يعد ولا يحصى وليس بإمكان سطور هذه الوجيزة احتواءها.
علاقته بالإمام الخميني (قدس سره)
كانت علاقة الشيخ بالإمام وثيقة جداً. ينقل أحد تلامذة الإمام (قدس سره): بعد إطلاق سراح الإمام ومجيئه إلى قم المقدسة عام 1963، أقام الناس مجلس فرح في جميع الأحياء في هذه المدينة، وكان بيت الإمام آنذاك مكتظاً بحشود الناس، وكان آية الله الشيخ بهجت من الذين كانوا يأتون إلى بيت الإمام في كل يوم، فقد كان يقف بضع دقائق أمام باب إحدى الغرف في البيت، وعندما يُقترح عليه أن يجلس داخل الغرفة كان يجيبهم بقوله: إني ألزم نفسي بالمجيء إلى هنا والوقوف في هذا المكان بضع دقائق تكريماً لهذه الشخصية العظيمة.
ويقول العلامة الشيخ مصباح اليزدي في هذا الصدد: يروي المرحوم السيد مصطفى (رضوان الله عليه) عن أبيه المرحوم الإمام (أعلى الله مقامه): كان الإمام يعتقد أن الشيخ بهجت يتمتع بمقامات معنوية ممتازة جداً.
ويقول أيضاً في العناية الخاصة التي كان يوليها الإمام للشيخ بهجت: ذات مرة تشرف خبراء القيادة بزيارة الإمام الراحل (رحمه الله) وطلبوا منه إرشاداً في المسائل الأخلاقية، فأحالهم الإمام إلى زيارة آية الله العظمى الشيخ بهجت، فقالوا له: إن الشيخ لا يقبل أحداً. فقال الإمام: أصروا عليه حتى يقبل.
بهجة المخلصين في العبودية
إن من أبرز علائم شخصية آية الله بهجت هو الانزواء والسعي لكي يبقى مجهولاً، فتراه يصرّ على أن لا يوضع له اسم أو ذكر في أي مكان وخير دليل على ذلك امتناعه من توجيه الإشكالات خلال الدروس التي كان يحضرها عند كبار الفقهاء يوم كان في عنفوان شبابه في النجف الأشرف وقم لأنه أدرك أن هذه الآراء والإشكالات التي يوردها تثير انتباه الآخرين نحوه وتوجه الأنظار إليه مما يؤدي إلى ذياع صيته. يذکر المرحوم آية الله الشيخ مرتضی الحائري في هذا الخصوص قائلاً: «کان الشيخ بهجت يجذب انتباه الأستاذ ويعطف ذهنه إليه نتيجة ما يبديه من آراء رصينة وإشکالاتٍ مهمة جدة مما کانت تسبّب خروج الدرس من حالته المألوفة عدة أيام بحثاً ومناقشةً لها وفائدةً لنا، لکنه أمسك عن ذلك فيما بعد ولم يبد الانتقاد هروباً من الشهرة.
وحتی في فترة تدريسه فيما بعد حرص على أن يلقي دروسه في مكان غير معروف بل ولم يبذل أدنى جهد للتعريف ببدءه للتدريس.
وهكذا كانت سجيته في العرفان والسير والسلوك فرغم كونه من تلامذة آية الله الميرزا علي القاضي المبرزين وحظوته برشحات وحالات عرفانية منذ طفولته وامتيازه بمقامات معنوية عالية، إلا أن أي حركة أو علامة لم تصدر عنه لتنبیء عن ذلك الحماس والهيام المواج الذي كان يعيشه.
وكان يتكتم أشد الكتمان على الفيوضات المعنوية التي تسنح له في محضر أساتذته العارفين.
ولم يسمع منه أحد كلمة «أنا» قط، على الرغم مما كان يطفح من جوانب شخصيته خلال استطراده الحديث عن أساتذته.
ونفس الأمر بخصوص المرجعية؛ فإنه لم يحاول طرح نفسه أبداً. وكان يأبى دائماً التصدي لها رغم تأريخه العريق في تدريس خارج الفقه والأصول لمدة نصف قرن.
كل ذلك يدل على أن هذا الرجل العظيم قد أوقف كامل وجوده للعبودية فحباه الله سبحانه وتعالى إزاء هذا الخلوص في العبودية والرقّيّة مقاماً محموداً عنده وذكراً جميلاً لدى الناس.
عروج إلى جنة اللقاء
كان اليوم الثاني والعشرون من شهر جمادي الأولى من عام 1430 الهجري قد أرّخ نهاية الانتظار وأعلن الوصول إلى جنة اللقاء وتحقق منية الوصال الأبدي الذي كان هذا الشيخ السالك ينتظره طول حياته الطيبة التي استطالت على التسعين.
لقد كان غروب يوم الأحد غروباً كدّر مدينة قم بحُللِ الغصة والأسى فما أن شاع خبر الوفاة في الأشداق حتى تملّك البلدة البهت والحيرة وسرعان ما تحول الأمر إلى أنّةٍ ورنّةٍ وتوجّعٍ ونياحٍ وعويل.