هل لكم أن تجدوا شخصاً واحداً كالسيد الخامنئي ملتزماً بالإسلام، وخدوماً يريد من أعماق قلبه تقديم الخدمة لهذا الشعب...؟ لن تجدوا مثله. إنني أعرفه منذ أعوام طويلة».
الإمام الخميني (قدس سره)
من الولادة إلى المدرسة
ولد سماحة قائد الثورة الإسلامية آية الله العظمی السيد علي الخامنئي نجل المرحوم حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد جواد الحسيني الخامنئي، يوم 24/4/1318ش الموافق لـ 28 صفر 1358هـ (15/7/1939م) في مدينة مشهد المقدسة. وكان ثاني أولاد العائلة. كانت حياة والده السيد جواد الخامنئي متواضعة جداً كمعظم رجال الدين وأساتذة العلوم الدينية. وقد تعلّم منه أبناؤه وزوجته المعنى الحقيقي للقناعة والحياة البسيطة وألفوها واعتادوا عليها. في معرض حديثه عن الذكريات الأولى من حياته، قال سماحة السید القائد عن أحوال عائلته: «كان والدي رجل دين معروف، لكنه شديد الورع والعزلة... حياتنا كانت صعبة. أتذكر ليالي لم نكن نجد فيها ما نتعشى به في منـزلنا! والدتي كانت تعد لنا العشاء بصعوبة... ولم يكن عشاؤنا ذاك سوى الخبز والزبيب». في الحوزة العلمية بعد دراسته لجامع المقدمات والصرف والنحو في المدرسة الثانوية، التحق بالحوزة العلمية، ودرس الآداب والمقدمات عند والده وغيره من الأساتذة آنذاك. «روحانية أبي هي العامل والسبب الأساس في اختياري لهذا الطريق النـيّر، وكانت والدتي أيضاً راغبة في هذا المنحى وتشجعني على خوضه». درس في «سليمان خان» و«نواب»، وأشرف الوالد على دراسة أولاده. درس كتاب «المعالم» أيضاً خلال هذه الفترة. ثم درس «شرائع الإسلام» و«شرح اللمعة» عند أبيه ولدى المرحوم الميرزا مدرس اليزدي و«الرسائل» و«المكاسب» عند المرحوم الحاج الشيخ هاشم القزويني، وسائر دروس السطوح في الفقه والأصول عند والده، وفرغ من دورة المقدمات والسطوح بشكل نادر ومذهل خلال خمسة أعوام ونصف العام. وقد كان للمرحوم والده السيد جواد دور كبير في تطور ولده البار خلال كل هذه المراحل. وفي مجال المنطق والفلسفة، درس سماحة السيد القائد «منظومة السبزواري» لدى المرحوم آية الله الميزرا جواد الطهراني، ثم عند المرحوم الشيخ رضا أيسي.
في حوزة النجف الأشرف في الثامنة عشرة بدأ الإمام الخامنئي دراسة البحث الخارج في الفقه والأصول عند المرجع الكبير المرحوم آية الله العظمى الميلاني في مدينة مشهد. وفي سنة 1957م قصد النجف الأشرف لزيارة العتبات المقدسة فيها وشارك هناك في دروس البحث الخارج لمجتهدين كبار منهم المرحوم السيد محسن الحكيم، والسيد محمود الشاهرودي، والميرزا باقر الزنجاني، والسيد يحيى اليزدي، والميرزا حسن البجنوردي، وراقته أوضاع الدراسة والتدريس في تلك الحوزة العلمية فأطلع أبيه على رغبته في المكوث هناك لطلب العلم، لكن الوالد لم يوافق، لذلك عاد بعد مدة إلى مشهد.
في الحوزة العلمية بقم المقدسة عكف الإمام الخامنئي منذ 1958 حتى 1964م على دراساته العليا في الفقه والأصول والفلسفة في الحوزة العلمية بمدينة قم وتتلمذ على يد علماء كبار كالمرحوم آية الله العظمى البروجردي، والإمام الخميني، والشيخ مرتضى الحائري اليزدي، والعلامة الطباطبائي. في سنة 1964م، علم سماحة السيد القائد عبر مراسلاته مع أبيه أن إحدى عيني والده قد كفّت وابيضّت، فحزن لذلك بشدة وتحيّر بين البقاء في قم لمواصلة الدراسة في حوزتها العظيمة أو العودة إلى مشهد لرعاية والده. وأخيراً رجّح العودة من قم إلى مشهد في سبيل الله والعمل على رعاية أبيه. يقول بهذا الصدد: «عدت إلى مشهد وقد منَّ الله تعالى عليَّ بالكثير من التوفيق. على كل حال ذهبت لأداء واجباتي ووظيفتي. إن كنت قد أصبتُ توفيقاً في حياتي فاعتقد أنه نتيجة هذا البر الذي عاملت به والدي، بل والدي ووالدتي معاً». على مفترق هذين الطريقين، اختار الإمام الخامنئي الطريق الصحيح. بعض الأساتذة والأصدقاء كانوا يتحسرون على سرعة تركه الحوزة العلمية في قم، ولو كان قد بقي فيها لصار كذا وكذا...! لكن المستقبل أثبت أن اختياره كان صائباً وأن يد المقادير الإلهية كتبت له مصيراً أفضل وأسمى من حساباتهم. هل كان أحد يتصور آنذاك أن الشاب العالم الموهوب ذي الـ 25 عاماً الذي عاد من قم إلى مشهد لخدمة أبيه وأمه طلباً لرضوان الله، سيتولّى بعد 25 عاماً منصب ولاية أمر المسلمين الرفيع؟! لم يكفّ في مشهد عن مواصلة الدراسة، وما عدا أيام العطل أو الكفاح والسجن والسفر، تابع رسمياً دراسته الفقهية والأصولية حتى سنة 1968م على يد كبار أساتذة الحوزة العلمية في مشهد لا سيما آية الله الميلاني. كما اشتغل منذ سنة 1964م حين أقام في مشهد بتدريس الفقه والأصول والعلوم الدينية للطلبة الشباب وطلاب الجامعات إلى جانب دراسته في الحوزة ورعايته لوالده الكبير المريض.
الكفاح السياسي الإمام الخامنئي على حد تعبيره «من تلاميذ الإمام الخميني (ره) في الفقه، والأصول، والسياسة، والثورة»، إلا أن البوارق الأولى للتحرك السياسي والعمل النضالي ضد الطاغوت أشعلها في ذهنه المجاهد الكبير وشهيد درب الإسلام السيد مجتبى نواب صفوي. حينما توجه نواب صفوي مع ثلة من «فدائيي الإسلام» إلى مشهد سنة 1952م ألقى خطاباً توعوياً حماسياً في مدرسة «سليمان خان» حول إحياء الإسلام وسيادة الأحكام الإلهية، وأحابيل الشاه وخداع الإنجليز وأكاذيبهم على الشعب الإيراني. كان الإمام الخامنئي حينها من الطلبة الشباب في مدرسة «سليمان خان» وتأثر بشدة بالكلام الناري لنواب صفوي. يقول: «منذ ذلك الحين اشتعلت فيَّ بوارق الثورة الإسلامية على يد نواب صفوي، ولا أشك أبداً في أن النار الأولى أشعلها المرحوم نواب في قلوبنا».
في نهضة الإمام الخميني (قدس سره) منذ سنة 1962م حينما كان سماحة السيد القائد في قم وانطلقت الحركة الثورية المعارضة للإمام الخميني ضد سياسات محمد رضا بهلوي المناوئة للإسلام والممالئة لأمريكا، انخرط هو أيضاً في عمليات الكفاح السياسي التي واصلها طوال 16 عاماً بكل ما لاقاه فيها من منعطفات وتعذيب ونفي وسجون، ولم يخش في هذا السبيل أية مخاطر. في شهر محرم سنة 1959م كُلِّف من قبل الإمام الخميني (قدس سره) لأول مرة أن يبلغ رسالة الإمام لآية الله الميلاني وعلماء خراسان بشأن كيفية التبليغ الذي يعتمده رجال الدين في شهر محرم وكشفهم الحقائق ضد سياسات الشاه الأمريكية وأوضاع إيران وأحداث قم. نفّذ السيد الخامنئي هذه المهمة وتوجه بنفسه للتبليغ في مدينة بيرجند فطفق ينوّر الأذهان ويكشف الحقائق ضد النظام البهلوي وأمريكا استجابة لنداء الإمام الخميني. وبسبب ذلك ألقي عليه القبض في التاسع من محرم (12 خرداد 1342ش - 2/6/1963م) وأطلق سراحه في اليوم التالي شريطة أن لا يرتقي المنبر ثانية ويخضع لرقابة الأجهزة الأمنية. مع نشوب حادثة 15 خرداد (4/6/1963م) الدامية، ألقي عليه القبض مرة أخرى في بيرجند ونقلوه إلى مشهد فسلموه للمعتقل العسكري وسجن هناك عشرة أيام تعرض فيها لأشد ألوان التعذيب والإيذاء والظروف السيئة.
الاعتقال الثاني في بهمن 1342ش (شباط 1964م)، رمضان 1383هـ، توجه الإمام الخامنئي مع كوكبة من أصدقائه إلى كرمان وفق برنامج عمل مدروس. وبعد يومين أو ثلاثة من المكوث في كرمان وإلقاء المحاضرات والتحدث من على المنابر واللقاء بالعلماء والطلبة في تلك المدينة، قصد إلى زاهدان، وحظيت خطبه الحماسية هناك لا سيما في يوم السادس من بهمن - ذكرى الاستفتاء المزيف الذي أطلقه الشاه - بإقبال جماهيري واسع. وفي يوم الخامس عشر من رمضان ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى (ع) بلغت صراحته وشجاعته وحماسه الثوري في فضح السياسات الشيطانية الأمريكية للنظام البهلوي، ذروتها فألقى السافاك القبض عليه ليلاً ونقلوه إلى طهران جواً. بقي قائد الثورة حوالي شهرين في زنزانة انفرادية في سجن «قزل قلعة» صابراً على شتى صنوف الإهانة والتعذيب.
الاعتقالان الثالث والرابع لاقت دروسه التي كان يلقيها في التفسير والحديث والفكر الإسلامي في مشهد وطهران إقبالاً نادراً من قبل الشباب الثوري المتوثب، فأدت هذه الأنشطة إلى غضب السافاك ما دعاهم إلى ملاحقته. لهذا كان يعيش سنة 1966م في طهران متخفياً، وبعد سنة واحدة أي في عام 1967م ألقي عليه القبض وسجن. وأفضت هذه الأنشطة العلمية وإقامته جلسات التدريس والتوعية والإصلاح إلى اعتقاله وسجنه مرة أخرى من قبل أجهزة السافاك البهلوي الجهنمية سنة 1970م.
الاعتقال الخامس يكتب سماحة السيد القائد (مد ظله) حول اعتقاله الخامس من قبل السافاك: «منذ سنة 48 كانت مقدمات العمل المسلح في إيران أمراً محسوساً. وقد ازدادت حساسية أجهزة النظام السابق وتشددها معي لأن القرائن كانت تؤكد لهم أن مثل هذا التيار لا يمكنه أن يكون عديم الصلة بأشخاص مثلي. في سنة 50 سجنت تارةً أخرى وللمرة الخامسة. التعامل العنيف للسافاك في السجن كان يشير بوضوح إلى فزع النظام من اقتراب تيارات الكفاح المسلح إلى أروقة الفكر الإسلامي، وأنه لا يمكن الاقتناع بأن نشاطاتي الفكرية والتبليغية في مشهد وطهران كانت بمعزل عن تلك التيارات. بعد إطلاق سراحي اتسعت رقعة دروس التفسير العامة، والدروس الإيديولوجية السرية و...».
الاعتقال السادس ما بين 1971 - 1974م كانت دروس التفسير والإيديولوجيا التي يلقيها سماحة الإمام الخامنئي تقام في ثلاثة مساجد بمدينة مشهد المقدسة هي مسجد «كرامت»، ومسجد «الإمام الحسن (ع)»، ومسجد «ميرزا جعفر». وكان الآلاف من الناس المشتاقين ولا سيما الشباب الواعي والمستنير والطلاب الثوريين المؤمنين يقصدون هذه المساجد الثلاثة ليتعرفوا فيها على الأفكار الإسلامية الأصيلة.
في المنفى في نهايات عام 1356ش (آذار 1978م) اعتقل نظام الإجرام البهلوي الإمام الخامنئي ونفاه إلى إيرانشهر مدة ثلاث سنوات. وفي أواسط سنة 1357ش (آب أو أيلول 1978م) أطلق سراحه من المنفى مع تصاعد الجهاد الشعبي العام للجماهير الثورية المسلمة في إيران، واستطاع العودة إلى مدينة مشهد المقدسة ليأخذ موقعه في طليعة صفوف الجماهير المناضلة ضد النظام البهلوي السفاح، ليرى بعد 15 عاماً من الكفاح البطولي والجهاد والصمود في سبيل الله والصبر على كل تلك المحن والمرارات، ثمرة النهضة والمقاومة والجهاد في انتصار الثورة الإسلامية الكبرى في إيران والسقوط الذليل للحكم البهلوي المنقوع بالجور والعار، وسيادة الإسلام في هذه الأرض الطيبة.
عشية الانتصار عشية انتصار الثورة الإسلامية، شكّل الإمام الخميني (قدس سره) بعد عودته من باريس إلى طهران «شورى الثورة الإسلامية» بعضوية شخصيات مجاهدة من قبيل الشهيد مطهري، والشهيد بهشتي، والشيخ هاشمي رفسنجاني و...، وكان سماحة السيد القائد أيضاً عضواً في هذه الشورى بأمر من الإمام الخميني. أبلغه الشهيد مطهري (ره) برسالة الإمام هذه، ما دعاه للانتقال من مشهد إلى طهران.
بعد انتصار الثورة الإسلامية
وأخيراً لاح فجر النصر وهوت أركان نظام بهلوي البغيض بفضل القيادة الحكيمة للإمام الخميني المقدس وجهاد وتضحيات الشعب ودماء عشرات الآلاف من الشهداء وآهات آلاف المعذبين، وانتصبت أعمدة الثورة الإسلامية، وقطف سماحة الإمام القائد الخامنئي (حفظه الله) ثمار الانتفاضة والثورة والاستبسال والجهاد المتمثلة في انتصار الثورة الإسلامية المباركة، وذلك بعد أكثر من 15 عشر عاماً من الكفاح والجهاد والمقاومة في سبيل الله، وشهد لحظات السقوط المذل لنظام بهلوي المستبد والشرير وبزوغ شمس الإسلام المحمدي الأصيل على ربوع إيران.
وبعد الانتصار المبارك، تابع الإمام القائد نشاطاته الإسلامية القيمة بكل اندفاع وحماس وبغية الاقتراب من أهداف الثورة الإسلامية أكثر فأكثر، وكانت جميع هذه النشاطات فريدة من نوعها وبالغة الأهمية في حينها، وفيما يلي نشير إلى أبرزها:
القيادة وولاية أمر المسلمين الجهاد المتواصل للإمام القائد (دام ظله) ليلاً ونهاراً كان سبباً لتقويم الدعامات الأساسية للثورة، ويأساً لأعداء الإسلام والمسلمين. وبرحيل الإمام الخميني (قدس سره الشريف) في 3 حزيران (1989 م)، عقد الفقهاء والمجتهدون في مجلس الخبراء جلسة طارئة لانتخاب القائد في صباح اليوم الثاني...، ولم تمض عشرون ساعة على الجلسة حتى تمت مبايعة آية الله العظمى الإمام الخامنئي (حفظه الله) ولياً لأمر المسلمين وقائداً للثورة الإسلامية المباركة بأكثرية الآراء، واستطاع الإمام القائد بقيادته الحكيمة تسيير دفة الثورة، والسير بها على نهج الإمام الخميني الراحل وعلى خط الإسلام المحمدي الأصيل، وزعامة الأمة الإسلامية في إيران بل والمسلمين في العالم.
المؤلفات والبحوث 1- الهيكلية العامة للفكر الإسلامي في القرآن. |