تحاول "إسرائيل" أمام كل الأزمات التي تعصف في المنطقة، وأمام التطورات على الساحة الفلسطينية، إستغلال الأحداث قدر الإمكان لصالحها، وركوب موجة التغيرات الإقليمية والدولية، والفلسطينية الداخلية، لتثبيت وجودها أكثر، والذهاب بشكلٍ أحادي الجانب نحو يهودية "دولتها"، مع انشغال محيطها بمشاكله.
لعبت "اسرائيل" في معظم الأحيان على وتر الخلافات الفلسطينية الداخلية، وخاصة بين جهتي التمثيل السياسي والعسكري للشعب الفلسطيني "فتح" و"حماس"، وذلك لإشغال المجتمع الفلسطيني بين طرفي النزاع السياسي، الذي وصل في فترة من الفترات الى نزاعٍ عسكري. فكلما زادت الخلافات الفلسطينية الداخلية كلما شعرت "اسرائيل" بالراحة اكثر، وزال الضغط الأمني عنها، بالإضافة الى الضغط السياسي العام دوليًا إن وجد.
شكلت "الإنتفاضة الفلسطينية" الأخيرة، والتي انطلقت شرارتها من القدس، انعطافًا جديدًا في رؤية الشعب الفلسطيني للصراع القائم، فانطلاق العمليات الفدائية المختلفة الأوجه من السكين الى اطلاق النار، ضمن مبادرة شعبية خاصة بعيدة عن التخطيط المسبق من قبل الفصائل الفلسطينية، حرر الشعب من الزوايا السياسية الضيقة للفصائل، حيث تشير الإحصاءات الرسمية الى أنّ 52% من شهداء الإنتفاضة لا ينتمون لأي فصيل فلسطيني، مما يؤكد المسار والرؤية الجديدين فعليًا على الساحة الفلسطينية.
تلك العمليات شتت التفكير الأمني والسياسي لـ"اسرائيل"، بحيث أنّ خطاب المستوى السياسي في حكومة نتنياهو اصبح في مواجهة مع كامل فئات الشعب الفلسطيني، ولم يعد الخطاب "الإسرائيلي" موجه الى فصيل فلسطيني دون غيره، وهذا ما يمكن اعتباره نقطة ايجابية، اذا تم تداركها من قبل الفصائل عبر لحاقها بالتوجهات العامة للشعب الفلسطيني بتبني خياراته لا العكس، وترك الأجندات الخارجية، المتواطئة في معظم الأحيان مع حكومة الإحتلال. انطلاقًا من هنا، شعرت "اسرائيل" بأن استغلالها لإنشغال العالم العربي في أزماته، لن يكون بالأمر السهل، مع تحرك الشارع الفلسطيني ضدها، كما ان محاولاتها العديدة لإلهاء الفصائل الفلسطينية في الأزمات العربية، ودفعها بأن تكون طرف، فشلت مع تحرك الشعب الفلسطيني بعيدًا عن سلطة الفصائل.
عمدت "اسرائيل" الى القيام بمشاريعها التوسعية في الضفة الغربية والقدس، بالتزامن مع حربها على غزة، لكسر المقاومة هناك، انطلاقًا من شعورها بأنّ الوقت مناسب لذلك، في ظل تعتيم إعلامي وسياسي على القضية الفلسطينية، إلّا أنّ وقوف المقاومة الفلسطينية في غزة بوجه الخطط "الإسرائيلية"، والتي لحقها انتفاضة شعبية في الضفة والقدس، جعلت الأمور أكثر صعوبة على الحكومة "الإسرائيلية"، فسقط الرهان "الإسرائيلي" على الأزمات العربية، وانشغلت "اسرائيل" بمشاكلها السياسية والأمنية والعسكرية، بصرف النظر عن مشاكلها الخارجية، المترتبة على صراعها مع المحور المقاوم من لبنان الى طهران.
هددت الإنتفاضة الفلسطينية المستمرة في القدس والضفة الغربية، والتي توسعت شرارتها لتطال مناطق الداخل الفلسطيني، المساعي "الإسرائيلية" لإعلان يهودية "الدولة"، وهذا ما عبّر عنه نتنياهو صراحة في خطابه الأخير امام "الكنيست"، بإعتباره أنّ "التحريض ضدنا من جانب الفلسطينيين وقادة السلطة الفلسطينية لم يتوقف ويرفضون الاعتراف بـ"إسرائيل" على أنها "دولة" يهودية، "دولة الوطن للشعب اليهودي" بل يسعى الفلسطينيون إلى محي "إسرائيل" عن وجه الأرض"، متابعًا "الفلسطينيون يأملون تدمير "إسرائيل" وهذا الأمل لن يتحقق فلن يجتثنا أحد من "بلادنا" فسوف نواصل البناء ونحمي "إسرائيل"".
يوجه نتنياهو خطابه باتجاهين، الأول الى الداخل السياسي "الإسرائيلي" للهروب من فشله في إنهاء الإنتفاضة، والثاني دوليًا لحث المجتمع الدولي على الوقوف بجانبه أكثر لتمرير يهودية "الدولة"، بإظهار "إسرائيل" على انها الضحية امام الفلسطينيين، فكلام نتنياهو الذي زعم فيه أنّ "صراعنا ليس على الأرض والمستوطنات، لكنّ الفلسطينيين يريدون محونا عن وجه الأرض"، يؤكد أنّ الشعب الفلسطيني استطاع إخراج القضية الفلسطينية من التعتيم، مما جعله يذهب مضطرًا الى الإستعطاف الدولي، ليس من منطلق "الدولة الإسرائيلية" فقط، بل وسّع دائرة التهديد، لتطال الشعب اليهودي بأكمله، حسب زعمه.
سعت "اسرائيل" منذ اشتعال العالم العربي في أزماته، الى دعم كل ما يعطيها حجة ودافع لإعلان يهودية "دولتها"، حيث تعتبر "اسرائيل" ان اعلان "يهودية الدولة" يجب ان تجاريه كانتونات مذهبية مشابهة، وأي تنوع ديني او ثقافي او سياسي في المنطقة، تعتبره تنوعًا مضادًا لها. بناءً عليه، فإنّ دعمها للتنظيمات الإرهابية، التي رفعت الشعارات الدينية مطيّة لتوسعها، وبناء دولتها كـ"داعش"، وقيام تلك التنظيمات بعملياتها الإرهابية بهذا الشكل، غير آبهةٍ بحدود ودين او ثقافة، يصب في إتجاه وصول "اسرائيل" للحجة التي تريدها لإعلان يهودية دولتها، بحيث ان العالم العربي المنقسم بهذا الشكل، لن يقف في وجه المساعي "الإسرائيلية"، بل سيأخذ المنطقة الى مرحلة جديدة، تستلم فيها "اسرائيل" المبادرة والحجة.
كان الإنفتاح "الإسرائيلي" على العالم العربي، محاولة للوصول الى ذلك الهدف، وبما ان إيران تشكّل تهديدًا فعليًا لوجود "اسرائيل" بحد ذاته، فإنّ الإتصالات العربية "الإسرائيلية" تدخل في إطار التعتيم على القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى، ومواجهة العدو المشترك لـ"اسرائيل" وبعض الدول العربية، أي إيران وحركات المقاومة، وقد أدت التطورات الأخيرة في المنطقة، الى خروج تلك الإتصالات الى العلن، بعد ان كانت سرية لعقودٍ عديدة، وهذا ما اعلن عنه مدير عام وزارة الخارجية "الإسرائيلية"، بتأكيده أنّ "هناك انفتاح عربي سري على "إسرائيل" ويمكننا الاتصال بمعظم الدول العربية"، وما رافق ذلك من كلامٍ لوزير الحرب "الإسرائيلي" الذي يُظهر الخطط "الإسرائيلية" للمنطقة بشكلٍ واضح، باعتباره أنّ "ايران رأس أعدائنا واذا كان الخيار بينها وبين "داعش" فأنا افضل "داعش""، ما يؤكد أنّ "داعش" لا تشكل خطرًا على "اسرائيل" بل هي سلاح بشكلٍ آخر هدفه تمرير المؤامرات "الإسرائيلية"، من ناحية يهودية "الدولة"، وما يرافق ذلك من وضع هذا التنظيم في مواجهة مع المحور المقاوم، وهو ما تثبته تصرفات المجموعات المسلحة وعلى رأسها "داعش".