(الإمام علي (ع

(الإمام علي (ع
عليّ(ع) يتحدَّث عن علاقته برسول الله
 
 
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
 
١٢/٧/٢٠٠٣

/

13 جمادى الأولى 1424ه‍ـ
 
 

نبقى مع أمير المؤمنين عليّ(ع) في نهاية هذه الخطبة، وهو يحدِّثنا عن بعض مواقفه في نصرة الإسلام، والّتي كان يتصدَّى فيها لكلِّ الزّعامات الّتي كانت تقف ضدَّ الإسلام. ثم يحدّثنا عن علاقته بالرّسول(ص)، الّتي كانت علاقةً أبويّةً بكلِّ ما للكلمة من معنى الرّعاية والحماية والتوجيه والاندماج، وكيف كان الإمام عليّ(ع) الأوّل في الإسلام، وكيف أنّ اللّه سبحانه وتعالى وكَّل بالنبيّ(ص) ملكاً عظيماً من الملائكة، وهو (جبرائيل)، يُلقي إليه كلّ يوم خُلقاً من أخلاقه.

تربية الرسول لعليّ

وعليّ(ع) عندما يحدّثنا عن مواقفه وعن جذوره التربويّة مع رسول اللّه(ص)، فإنّه يتحدّث حديث الإنسان الّذي لا يفاخر بذلك، فعليّ(ع) هو المتواضع لله، وهو المتواضع للنّاس من خلال اللّه، ولكنَّ عليّاً(ع) أراد أن يقول للنّاس إنَّه الإنسان الّذي عاش مع الرّسول(ص) منذ أوحى اللّه إليه، ليقول لهم إنَّ عليكم أن تدرسوا الشخصيّات التي تقتدون بها وتمنحونها الشرعيّة، لأنّ هناك فرقاً بين الإنسان الّذي عاش عقل الرّسول(ص) وقلبه وعاطفته وأخلاقه، وكان معه في الليل والنهار قبل أن يبعثه اللّه بالرسالة وبعده، وكان من خواصّه، ولم يسجد لصنم قطّ، ولهذا قيل عنه: (كرَّم اللّه وجهه).. وإنسانٍ أسهمت فيه قيم الجاهليّة، وأثّرت في عناصر شخصيّته، والتي وإن كانت لا تمنعه من الإخلاص للإسلام، إلا أنّها تمنعه من أن يكون ممثّلاً للإسلام بكلّه في صفائه.

وقد أراد الإمام عليّ(ع) ـ من خلال حديثه ذاك ـ أن يؤكِّد الموقع القياديّ الذي يتميّز به في كلِّ الأمور التي لا بدَّ للقائد من أن يتَّصف بها؛ في علمه، وعقله، وروحه، وشجاعته، وفي صلابته وخبرته، وفي رعايته للنَّاس، وما إلى ذلك... فأراد أن يقول لهم: اختاروا القيادة من خلال العناصر الأساسيّة في تاريخ القائد وعقله وثقافته، ولا تندفعوا في اختيار القيادة بفعل بعض العناوين والأوضاع والمجاملات وما أشبه ذلك، لأنَّ القيادة تمثِّل الموقع الّذي يقود النّاس إلى ما فيه صلاح الدّين والدّنيا والآخرة.

وفي الحديث عن هذا التّاريخ الرّساليّ، يقول عليّ(ع): "أنا وَضعت في الصِّغر بكلاكل العرب". وكلمة (كلاكل) تعني الصّدور، والمقصود وجهاء العرب ورؤساؤهم، بمعنى أنّه أخضعهم وأذلّهم إلى الأرض عندما واجههم في الحروب الّتي خاضها مع الرّسول(ص).. "وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر"، وهما من العشائر الكبيرة القويّة من العرب آنذاك. ونواجم القرون هو ما يرتفع منها، وهو كناية عن الأشخاص الّذين يمثّلون الرّفعة والرئاسة وما إلى ذلك.. كأنّه يقول لهم[1]: إنني انطلقت مع الرسول(ص) الذي كان لا يخوض الحروب من أجل السيطرة الذاتيّة، ولكن لتكون كلمة اللّه هي العليا، وتكون كلمة الشّيطان هي السّفلى، حتى ينطلق الناس مع ما ينفعهم كما يريده اللّه في رسالته، ومع الموقع الّذي يرفع مستواهم في الدّنيا والآخرة؛ لأنَّ الرّسول(ص) جاء إلى الناس للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[2]، ولكنّ المسألة هي أنَّ القوم وقفوا في طريقه، وحجزوا حريّته، وعذَّبوا أصحابه في مكّة، وشنّوا الحروب عليه لتعطيل حركته في إيصال الدّعوة الإسلاميّة إلى أكبر عدد ممكن من النّاس، ولذلك، كانت حروب النبيّ(ص) حروباً وقائيّة، ولم تكن حروباً عدوانيّة، ولم يكن الهدف منها إخضاع النّاس للإسلام من دون حوار، ومن دون تعليم ونصح وما إلى ذلك.

"وقد علمتم موضعي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، بالقرابة القريبة، والمنـزلة الخصيصة"، باعتبار أنه ابن عمّه وزوج ابنته فاطمة الزّهراء(ع) سيّدة نساء العالمين، حيث لم يوافق النبيّ(ص) لأحد أن يخطبها غير عليّ(ع)، لأنه كان ينتظر أمر اللّه في ذلك.. "وضعني في حجره وأنا ولد"، وكانت قصة وضعه في حجر النبي(ص)، أن العباس ـ عمّ النبي (ص) ـ قال للنبي(ص) إنَّ أبا طالب كثير العيال، وإن وضعه الاقتصادي والمالي لا يساعده على القيام بمسؤولية رعاية عياله، فأراد أن يأخذ من أبنائه ليخفِّف عنه، فجاء إلى أبي طالب ليطلب منه رعاية بعض أولاده، فقال له أبو طالب اتركوا لي عقيلاً، وخذوا عليّاً وجعفراً، فأخذ النبيّ(ص) عليّاً، وأخذ العباس جعفراً، ليربّياهما، وهذا مما رواه بعض المؤرّخين، وأنه مما أراد اللّه سبحانه وتعالى من الخير لعليّ(ع). فيقول محمد بن إسحاق صاحب كتاب (السيرة): "...فحدّثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبير، قال: كان من نعمة اللّه على علي بن أبي طالب وما صنع اللّه له وأراده به من الخير، أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله(ص) للعباس عمّه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عبّاس، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفِّف عنه من عياله، فآخذ من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت رجلاً، فنكفيهما عنه، فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفِّف عنك عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله(ص) عليّاً وضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمَّه إليه، فلم يزل عليّ بن أبي طالب مع رسول الله، حتى بعثه اللّه نبيّاً، فاتبعه عليّ، فآمن به وصدّقه"[3].

هذه هي قصة حضانة الرسول(ص) لعلي(ع). ويبدو من كلام عليّ(ع) ـ الآتي ـ أنَّ حضانة الرسول(ص) له كانت في السنين الأولى من طفولته.. ثمّ يصوّر(ع) تفاصيل هذه الرعاية الَّتي لقيها من رسول الله(ص) بقوله: "وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره"، ليمنحه كل ما لديه من عاطفة وحنان، لأنَّ الطّفل في مثل هذه السنّ، بحاجة إلى أن يتغذّى بالعاطفة والحنان كما يتغذى بالطعام.. "ويكنُفُني إلى فراشه"، يعني كان النبيّ(ص) ينيمه ويرقده معه في الفراش.. "ويُمِسّني جسده"، إذ كان يحتضنه بحيث يمسّه جسده، تدليلاً على العلاقة بينهما، وأن لا حاجز بينه وبين الرّسول(ص)، ليشعر الطّفل بالأمان عندما يلامس جسده جسد أبيه أو أمّه أو الّذي يرعاه.. "ويشمّني عرفه"، والعرف هو الرائحة، فكان يشمّ رائحة الرسول(ص) الطيّبة التي تفوح بالعطر .. "وكان يمضغ الشّيء ثم يلقمنيه"، وذلك قبل نبات أسنانه، فكان الرّسول(ص) يمضغ اللّقمة ليلقمها لعليّ(ع).. "وما وجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل"، فكان الإمام عليّ(ع) معصوماً منذ طفولته، بحيث لم يجد الرّسول(ص) له ـ في تلك السن ـ كذبةً في قول، فكان الصّدق هو خُلق عليّ(ع)، وكان في كلّ أفعاله الصواب والحق، ولم يكن فيها أيُّ خطأ في أيِّ جانب من جوانبها، حتى قبل أن ينطلق بالإمامة، وقبل أن يبعث اللّه محمداً(ص) نبيّاً.

سيرة المصطفى(ص) في كلام عليّ(ع)

ثم يحدّثنا أمير المؤمنين عليّ(ع) عن الرسول(ص) وكيف تربّى(ص)، وأنّ الله كان يتعهّده، فيوكل به عظيماً من ملائكته، فيقول(ع): "ولقد قرن اللّه به(ص) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملكٍ من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره"، حيث كان يرضع عند حليمة السعدية، فكان الملك هو المربي للرسول(ص)، يسلك به نحو مكارم الأخلاق ليله ونهاره، على الأسس الّتي أراد الله سبحانه أن يركّزها في شخصيّته.

وينقل بعض المؤرّخين (الطبري) عن الإمام الباقر(ع) ـ وهو يشير إلى هذه المسألة التي أثارها الإمام علي(ع) ـ فيقول: "روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد الباقر(ع) سأله عن قول اللّه عزّ وجلّ: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}[4]، فقال(ع): "يوكِّل اللّه سبحانه وتعالى بأنبيائه ملائكةً، يحصون أعمالهم، ويؤدُّون إليه تبليغهم الرسالة، ووكّل بمحمد(ص) ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع، يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصدّه عن الشّرّ ومساوئ الأخلاق، وهو الّذي كان يناديه (السّلام عليك يا محمّد يا رسول الله)، وهو شابّ لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظنّ أنّ ذلك السّلام من الحجر أو الأرض، فيتأمّل فلا يرى شيئاً"[5]. وفي ضوء ذلك، لا بدَّ من أن تُدرس مسألة تربية الأنبياء والرسل(ع) دراسة علميّة عميقة، في تنوّع الأساليب التي يعلّمهم الله من خلالها، سواء بالإلهام أو الملك أو ما إلى ذلك، بالدرجة التي يمنحهم الله فيها سعة العلم، وسموّ الروح، واستقامة الخطّ، وسلامة الموقف، وصواب الرأي.

ثم يقول(ع): "ولقد كنت أتبعه اتِّباع الفصيل أثَر أمّه"، مثلما يسير فصيل النّاقة أثر أمّه، فكأنّ الإمام(ع) يقول: إني كنتُ أراقب الرّسول(ص) في كلّ ما يفعل، وكنت أتبعه في ذلك كلّه.. "يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً"، كان دور النبيّ(ص) دور التربية لعليّ(ع)، فكان يعطيه العلم منذ تلك المرحلة التي كان فيها معه في غار حراء.. "ويأمرني بالاقتداء به"، فكان النبي(ص) يوجّه الإمام(ع) ويأمره بالقول: افعل ذلك واقتد به، لأنَّ الرسول(ص) كان يريد أن يجعل عقل عليّ عقله، وقلب عليّ قلبه، وسلوك عليّ سلوكه(ص)، كان يريد لعليّ(ع) أن يتقمَّص كلّ شخصيته بشكل يعي فيه تلك الشخصيّة، لا كمن يقلّد إنساناً دون وعي، ولكنه تقمُّص الإنسان الّذي يعيش عقله وقلبه وروحه. ولذلك، كان عليّ(ع) ـ في كلِّ حياته ـ هو نفس الرّسول(ص)، وكان عقله عقل الرّسول(ص)، وقلبه قلب الرّسول(ص)، وكانت سيرته سيرة الرّسول(ص).. وربّما نستوحي من اختيار النبيّ(ص) لعليّ في تربيته له، أنّه كان من خلال لطف الله به، يعدّه إعداداً روحيّاً وثقافيّاً وأخلاقيّاً، إضافةً إلى تنميته جسديّاً، وبذلك كان في ملكاته المتنوّعة صناعة رسول الله(ص) في البُعد الإنساني لصناعة الرّجال.

"ولقد كان يجاور في كلِّ سنةٍ بحراء".. وكما ورد في كتب السيرة، أنَّ النبيّ(ص) كان يقضي في كلِّ سنة شهراً في غار حراء للعبادة والتأمّل.. "فأراه ولا يراه غيري"، حيث كان النبيّ(ص) يأخذ معه علياً للتأمّل والعبادة، وكان يريد له أن يعيش هذه العزلة الروحية التي أراد له أن يرتفع إلى مستواها. "فأراه ولا يراه غيري"، يعني كان(ص) لا يستقبل أحداً وهو في عزلته في حراء، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير الرّسول(ص) وخديجة وعليّ ثالثهما، وهم يمثّلون بذلك المجتمع الإسلامي الأوّل في التجربة العائلية والعبادية والروحيّة. وقد قال علي(ع) في بعض كلماته في (نهج البلاغة) وهو يدعو اللّه سبحانه وتعالى: "اللّهمَّ إني أوَّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله(ص) بالصلاة"[6]... فقد كان سبق المسلمين بالصّلاة في بدايات الدّعوة عندما كانت الدّعوة سريّة، وكانت شهادة من أبي طالب عندما رأى النبيّ(ص) يصلّي ومعه خديجة وعليّ، فقال أبو طالب لعفيف الكندي: "أتدري من هذا؟ وهو يشير إلى النبيّ(ص)، قال: لا. قال: هذا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب، وهذا ابني عليّ بن أبي طالب، وهذه المرأة خلفهما تصلّي خديجة بنت خويلد زوج محمد ابن أخي. وأيم اللّه، ما أعلم على وجه الأرض كلّها أحداً على هذا الدّين غير هؤلاء الثّلاثة"[7].

وينقل بعض المؤرخين ـ وهو الطبري ـ روايةً نذكرها على تحفّظ على ما فيها، قال: "حدَّثنا محمد بن إسحاق قال: كان الرّسول(ص) إذا حضرت الصّلاة، خرج إلى شعاب مكّة، وخرج معه عليّ بن أبي طالب، مستخفياً من عمّه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه ـ وربّما كان حذره من عمّه أبي طالب، لأنّه كان قد أعلن رسالته للنّاس، ولم يكن قد بلّغه الرّسالة، ما قد يدفع إلى الحذر من إطلاعه على هذا الدّين الجديد دون إعداد سابق ـ فيصلّيان الصّلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكث[8]، لأنّ الطبري روى أنَّ أبا طالب قال لعليّ(ع): يا بنيّ، ما هذا الّذي أنت عليه؟ فقال عليّ(ع): يا أبت، آمنت باللّه وبرسوله، وصدّقت ما جاء به، وصلّيت للّه معه، قال: فزعموا أنه قال له: أما إنّه لا يدعو إلا إلى خير فالزمه.

أوّل النّاس إسلاماً

وروي أيضاً عن أبي طالب أنّه رأى الرّسول(ص) يصلّي في المسجد الحرام، وعليّ إلى جانبه وخديجة خلفهما، فقال لولده جعفر: صل جناح ابن عمّك ـ يعني لا تترك جناحه الثاني فارغاً ـ ثم يقول(ع): "ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول اللّه(ص) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرّسالة، وأشمُّ ريح النبوَّة"، فكان يعيش في رسالته النبوَّة.. "ولقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشّيطان أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنّك لست بنبي، ولكنّك وزير، وإنك لعلى خير"[9]. وهذه الكلمة قالها الرسول(ص) مع بداية الرسالة.

ويحدّثنا التاريخ أنّه عندما نزلت الآية الكريمة: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[10]، جمع(ص) أقرباءه، وأراد أن يبلّغهم الرسالة، وطلب منهم أن يؤمنوا به، فعن ابن عباس عن علي بن أبي طالب(ع) قال: "لما نزلت هذه الآية على رسول الله {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، دعاني رسول الله فقال: يا علي، إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ـ وهذه مهمّة ثقيلة جداً ـ فضقت بذلك ذرعاً، وعلمت أنّي متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتّ عليها حتى جاءني جبريل، فقال: يا محمد، إنّك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربك ـ وذلك من باب بيان خطورة المسألة، وليس من باب التّهديد للنبيّ(ص)، وذلك ليقيم الحجّة على أقربائه، حتى لا يقول الناس الآخرون بأنه لماذا لا ينذر أقرباءه قبل الآخرين ـ فقال النبيّ(ص) لعليّ(ع): فاصنع لي صاعاً من طعام، واجعل عليه رِجل شاة، واجعل لنا عسّاً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطّلب حتى أكلّمهم أبلغ ما أُمرت به، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، يزيدون أو ينقصون رجلاً، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه، دعاني بالطعام الذي صنعته لهم فجئته به، فلما تناول النبيّ(ص) جشب حزبة من اللّحم فشقّها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصّحفة، فقال: كلوا بسم اللّه، فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما نرى إلا آثار أصابعهم ـ بمعنى جعل اللّه البركة في الطّعام ـ واللّه، إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمته لجميعهم، ثم قال: اسقِ القوم يا عليّ، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا منه حتى رووا جميعاً، وأيم اللّه، إن كان الرّجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد الرّسول(ص) أن يكلّمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم، ولم يكلّمهم النبيّ(ص). فلما كان الغد، قال: يا عليّ، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن أكلّمهم، فعد لنا مثل الّذي صنعت بالأمس من الطعام والشّراب ثم اجمعهم لي. ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطّعام فقرّبته، ففعل به كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا، ثم تكلّم النبيّ(ص) فقال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم أنّ شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدّنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني ـ يساعدني ـ على أمري هذا؟ فقلت وأنا أحدثهم سنّاً، وأرمصهم عيناً ـ يعني مثل القذى بالعين ـوأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً ـ يعني رفيع السّاقين ـ : أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، فقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ"[11].

وهذا مما استدلَّ به البعض من أنّ عليّاً وزير رسول اللّه(ص)، واستدلّوا برواية السيوطي في كتابه (الدرّ المنثور)، حيث ذكر أنّ النبيّ(ص) دعا ربّه قائلاً: "اللّهمَّ إني أسألك ما سألك أخي موسى: ...واجعل لي وزيراً من أهلي، عليّ أخي... أشركه في أمري، كي نسبِّحك كثيراً.."[12]، فضلاً عن الكلمة النبويّة المشهورة، حيث قال النبيّ(ص) لعلي: "أنت منّي بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي"[13]. فإذا كان عليّ(ع) لرسول اللّه(ص) بمنـزلة هارون من موسى، فإنّ هارون كان وزيراً لموسى(ع)، إضافةً إلى النبوَّة، ولكنّ النبوَّة لم تجعل لعليّ(ع).

ولذلك، فمسألة الإعلان عن أنّ عليّاً خليفة النبيّ(ص)، لم تكن مسألة طارئة أو مستحدثة في أواخر عهد الرّسول(ص)، بل كانت في بدايات الرسالة، ولذلك، فإنّ الإمام عليّاً(ع) يريد أن يؤكّد بهذه الكلمات للنّاس كافّةً، أنه وحده من بين كلّ الصحابة هو الشخص الذي يقوم مقام رسول اللّه(ص)، لأنه ليس هناك أحد من المسلمين غيره أخذ علم رسول اللّه(ص) وأخلاقه كلّها، وخاض حروب النبيّ(ص)، ونصر الإسلام كما لم ينصره أحد، إلى ما كان يملكه من الخبرة في إدارة الناس، وهو ما ندرسه في (نهج البلاغة) في عهده لمالك الأشتر، وفي كلّ تعاليمه(ع) الّتي برز لنا فيها كشخصيّة تملك أعلى مواقع الثقافة الإداريّة والاجتماعيّة والسياسيّة وغير ذلك. لذلك، فهو أعلم النَّاس بالإسلام، وأكثرهم خبرةً بالإدارة، وخلافة النبيّ(ص) تحتاج إلى شخصٍ يجمع كلا العنصرين: عنصر الدّعوة إلى الإسلام، وعنصر إدارة شؤون المسلمين، ولم يتوفَّر ذلك إلا عند عليّ(ع) لمن يريد أن يدرس عليّاً(ع) دراسةً لا عصبيّة فيها، بل دراسةً موضوعيّة متّزنة.

ويبقى للكلام بقيّة في الأسبوع القادم.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  يراجع ما قبل هذا الكلام من الحديث لفهم المقصود.

[2]  [النحل: 125].

[3]  السيرة النبويّة، ابن هشام، ج1، ص162..

[4]  [الجن: 26، 27].

[5]  بحار الأنوار، ج 15، ص 362.

[6]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 14.

[7] بحار الأنوار، ج15، 363.

[8]  تاريخ الطّبري، ج 2، ص 58.

[9]  نهج البلاغة، ج 2، ص 156 ـ 158.

[10]  [الشعراء: 214].

[11]  كنز العمال، المتقي الهندي، ج 13، ص 132.

[12]  بحار الأنوار، ج 38، ص 143.

[13]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص107.